صوت رجاء محمد الرقيق الطفولي وهي تغني أغنيتها الشهيرة في افتح يا سمسم «أعيش في مدينة، نعم أعيش» يباغتني في كل لحظة هانئة، جميلة بل حتى مزعجة في تنقلاتي اليومية في المدينة. الثامنة صباحا في الطريق للعمل متوجهة للقطار على دراجتي أو مشيا أمشي جنبا إلى جانب الصغار في طريقهم لمدارسهم، بينما الباعة يستفتحون يومهم، أحدهم يكنس ما أمام محلاتهم مريقين الماء على الرصيف ليغسل تعب الأمس. أسرع الخطى لمقهى الحي الصغير الذي يفتح أبوابه من السابعة صباحا، وهو يعج كعادته بزوار الصباح كل يطلب قهوته على عجالة. الحق أن العاملة اللطيفة تعرف مسبقا طلباتنا، موفرة بذلك الوقت الثمين؛ لينطلق الكل بعد التزود بمؤونة الكافيين الصباحية إلى القطار التحت أرضي الذي يعمل على مدار الساعة، رابطا شمال المدينة بجنوبها وغربها بشرقها. القطار الصباحي مزدحم بالطبع يوميا، فهو وسيلة النقل الرئيسة هنا في مدينة تحتضن فوق الثمانية ملايين نسمة من كافة الجنسيات والأعراق. لا يضايقني هذا الازدحام الصباحي على الإطلاق. ففي كل صباح إن كنت أقرأ كتابا ما وأنا أرتشف قهوتي أو أبدأ بكتابة مستعجلة لا يفوتني أن أمارس هوايتي الخفية في مراقبة الجالسين والواقفين حولي، كل مستغرق في شأنه الخاص لا يحدق أحدنا في الآخر وإن تلاقت نظراتنا صدفة أشحنا بوجوهنا إلى جهة أخرى. أرقبهم بتلصص وأنا أقرأ لأبدأ بتخيل حكايتهم، فإلى أي البلاد تنتمي هذه اللغة التي تتحدث بها مسنتان إلى جواري، يا ترى ما قصة الزوجين المتحابين أمامي، لماذا توجه المرأة نظرات العتب الرقيقة لرجلها الذي من الواضح أنه يبذل جهدا لإرضائها، ماذا عن الرجل اليهودي الملتحي بجوراهما بقبعته الصغيرة على رأسه وهو منكفئ يقرأ كتابا ما بالعبرية، هل لاحظ الكتاب العربي في يدي، هل يحاول قراءتي هو الآخر؟ ماذا عساه يقرأ؟ ربما أذكارا يهودية؟ تتبدد أسئلتي الفضولية حالما يرتفع القطار التحت أرضي لنعبر جسر مانهاتن، تغمرنا أشعة الشمس، ويتوجه الكل بالنظر إلى النوافذ التي كانت معتمة قبل لحظات، ليطل علينا المنظر الرائع الذي لا أمل النظر إليه أبدا. جسر المدينة الذي يربط مانهاتن ببروكلين. ذات الجسر الذي رأيته مئات المرات قبل ذلك في المسلسلات والأفلام ها هو يحييني كل صباح ومساء في حلي وترحالي، لأنشد بحبور «في هذه المدينة سواعد سمراء كسمرة المساء جميعها تشيد لتعمر المدينة». لماذا بعد سنتين من الإقامة هنا ما زالت ذات التفاصيل تغمرني ببهجة عامرة؟ لأن التفاصيل الصغيرة هذه هي التي تصنع حياة المدينة وسكانها.. المشي صباحا إلى العمل، تحية عاملة القهوة في المقهى، مشاركة سكان المدينة على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية في ذات وسيلة النقل، كل ذلك يوحدنا ضمن منظومة اجتماعية واحدة نتساوى فيها نساء ورجالا بيضا وسمرا وسودا وصفرا، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل «سواعد سمراء كسمرة المساء تعبد الطريق وترفع الجسور». مقابل سعادتي بوجودي هنا لاحظت أن السعوديين، الذكور منهم بشكل خاص، لا يحبون نيويورك لرتمها السريع، واستحالة وجود مواقف في المدينة التي لا تنام يجعل قيادة السيارات بشكل يومي حلما بعيدا كما يقولون. فمن تعود على الدلال لا يقوى العيش في مدينة تقسو على الكسالى وتكافئ المتميزين العاملين بجهد كما لا تفعل مدينة أخرى، من ينجح هنا يفتح له العالم أبوابه، ومن يفشل لا يجر أذيال الخيبة فحسب، بل حب المدينة التي وإن فشل فيها سيظل يذكرها بشغف وحنين. راسلني أحد القراء معلقا على مقالي السابق الذي وصفت فيه نيويورك بحضن الجدة الحنون، ساخرا من شعوري بالأمان في مدينة مشهورة بارتفاع معدل الجريمة كما يعتقد. عزيزي القارئ، لا أستطيع أن أحصي كم من مساء رجعت لمنزلي فيه بعد منتصف الليل من أقصى شمال المدينة إلى جنوبها، لأترجل من القطار وأمشي على الشارع العام أكثر من عشر دقائق تمر خلالها سيارات الشرطة، لأميز أكثر من مرة امرأتين خلف مقعد القيادة، أبتسم وأنا أشعر بأمان أكثر. هل تعلم أني حاولت المشي في شوارع جدة ظهرا ولم أفلح؟ من الضيم أن أقارن نيويورك بمدينة أخرى، فحتى لندن ولا باريس لا يوجد فيهما هذا التمازج العرقي الفريد، الحي كاريبي يجاور اليهودي بعده الأفغاني ثم الصيني ثم العربي والروسي، هنا مدينة تختصر العالم في أحيائها. ولكن على الرغم من شعوري بالامتنان، إلا أنني غالبا أيضا ما أشعر بالأسى على النساء اللواتي لم يقمن في حياتهن بالمشي في الشارع بحرية وأمان، على الإنسان الذي ولد في مدينة ما وعاش فيها كل حياته وما زال غريبا، على المبدع الذي يحاول شق طريقه ليواجه سد الواسطات والعادات والبيروقراطية. لكل هؤلاء لا أملك إلا أن أدعو الله في هذه الأيام المباركة أن يحقق لكم فرصة العيش في مدينة تستطيع رغم ضخامتها أن تذكرككم في كل لحظة بأغنية طفولية تمايلتم وما زلتم على أنغامها. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 249 مسافة ثم الرسالة