في أمريكا بعيدا هناك... اكتشفوا أن عضلات جسم الرجل الستيني إذا ما تعرضت لنفس التمارين التي يمارسها اليافع ابن العشرين فإن استجابتها لا تختلف، بل إنها تتشكل وتنتفخ وتكبر ويشتد عودها، وكأن سفينة العمر لم تبحر ميلا واحدا وكأننا لم نبارح بعد شواطئ سن الشباب الجميل ولم تنل الأيام من قوانا وعنفواننا!! وفي أمريكا أيضا.. وقف رجل ستيني وأمسك بمكبرات الصوت وأخذ يبكي على حاله ويلعن على الملأ أباه وأمه وأهله نفرا نفرا وحين سألوه ما خطبك يا أخ.. ما الذي حصل وما هو مغزى ذلك الغضب وتلك الثورة العارمة والعمر الضائع على قارعة الطريق بلا قوت أو مستقبل وقد بدا عاطلا مخمورا ؟؟ أجاب حانقا.. هم السبب، فقد ظلت أمي تلبسني الحفائظ حتى سن العاشرة ولم تعلمني كيفية الدخول إلى الحمام.. لم يعلمني أحد معنى المسؤولية، في حين ظل أبي صامتا لا يوبخها على جرمها في حق طفلها المسكين!! بلغ من العمر منتهاه ولازال يلوم أبويه على الحفائظ والرضعة والسيرلاك .. بل يلوم أباه على أنه ما صفع أمه انتقاما منها على فعلتها في حقه قبل أزمانٍ سحيقة!! هي اسطوانة الضحية التي يعشقها الإنسان سواء كان أمريكيا أشقر، أو أصلع أو مسكينا لا يملك من حطام الدنيا شعرة، أو فنزولي ذو عينين زرقاوين يغازل بهما أجمل نساء الدنيا.. هي الزاوية الشهيرة التي نرتكن إليها محتمين بظلها إذا ما اشتد قيظ الأيام وقد تنهدت ضمائرنا سقما وحيرة، وتنفسنا الصعداء وملأنا اليأس جراء الفشل وحطمتنا مآسي الحياة.. هي مرثية من ألف بيت، فإذا ما بدأنا في نظمها سيمضي بنا العمر نعدد جراح الماضي وآلامنا دون أن نتوقف!! إلا أن مستر جيمس العاطل عن العمل والذي لم يصنع شيئا أكثر من احتساء الخمر طيلة حياته والعيش على الهامش، ليس الوحيد.. حولنا آلافا مؤلفة تلبس رداء الضحية إلى أن تموت مختنقة تحت إزاره.. تعيش سجينة للأبد بين قضبان الماضي لا تبارح دروبه وأزقته ولا تنسه لحظة وقد بقيت معلقة على أبوابه وأوصدت النوافذ لتحجب الشمس والهواء وتصرخ ضاع العمر يا ولدي!! أما أحد مديري السجون الأوروبية وفي مقابلة لطيفة فقد صرح بعلو صوته.. لم أسمع في حياتي كلمة بريء يتردد صداها على مسامعي أكثر من هذا المكان الذي تشهد أركانه وممراته!! الحقيقة تقول إننا نحن من نسجن أنفسنا في زنزانة متر في متر لنموت ألف مرة قبل أن تنتهي أعمارنا.. نحن من نزعم أن القطار رحل ولن يعود، في حين أن لا شيء سوانا تأخر عن المحطة.. نحن من أهمل ونسي الميعاد أو تناساه ونحن من باع العمر في المزاد وبأبخس الأثمان.. إنه كسلنا واستمتاعنا بأدوار البؤس والشقاء ورفضنا أن نحاول ونجاهد بمثابرة، والدليل عضلات الشيخوخة التي تتحدى العمر بكل جسارة والتي لم تهب قسوة الأيام، بينما وقفنا نحن على شرفة الماضي لنغني ظلموه وننتظر الجمهور أن يصفق ويا ويلتاه إن لم يبك حزنا وأسى رأفة بحالنا!! الحياة أجمل من أن تضيع في اللوم ومحاسبة من أخطؤوا قبل ستين سنة في حقك.. فلنحدد من اليوم الوجهة والهدف ولننطلق لا يهم أين أنت وأنا الآن، لازال القلب ينبض وإن نبت الشيب وارتخى الجسد، فلا تساوم على عمرك وتندب حظك وتلوم أجدادك على أخطاء الماضي، يبقى هناك ألف أمل، بشرط أن تكون الخطوة الأولى هي اعتراف صريح توقع عليه بكامل قواك العقلية ينص على أن الحياة انكسارات وانتصارات وأن الفطن من يحتفظ بلقطات عثراته تذكارا حتى يتمرس في قراءة خريطة الغد ومشواره.. اللحظة التي سنتخلص فيها من الماضي وقيوده سننسى آهات الأمس وصرخاتنا ذات شتاء مؤلم.. حتى قصاصات الأمس الحزينة يبقى لها رونقها في سجلات الأيام، فلتستعد من اليوم.. فعضلاتك قادرة على فعل المستحيل، فليكن قلبك على قدر ثورتها ورغباتها من أجل مشوار جميل قبل أن يمضي القطار، فلا أحد بوسعه أن يمنعك أن تكون ما تريد وأن تكون سوى نفسك.. فكن يا سيدي أنت!! دمتم ودمت يا وطن بألف خير..