لا يشعر بمرارة قرار التقاعد إلا رجل رائد في مثل علم وخبرة الدكتور الجراح حسان رفة، طبيب القلوب الذي يتقلب في بيته على جمر النار بعد ربع قرن من الأسبقية والأولويات التي كافح خلالها لإجراء أكثر من 13 ألف عملية قلب، ظل فيها ملء السمع والبصر شاغلا للدنيا ومحور حديث الناس.. شعرت بانكساره النفسي واستنكاره قرار إحالته إلى التقاعد مثل أي موظف يصل إلى سن الستين دون أن يقدم شيئا، تحدث لي عن مواجع قلبه بصراحة وشفافية غير مسبوقة، قال بأنه ذهب ضحية مرض البيروقراطية القاتل وشعوره بالخذلان من ثلاثة وزراء سابقين للصحة، وكشف القناع عن حرب تجفيف الموارد والمستلزمات الطبية التي شنها ضده أعداء النجاح بسبب غيرتهم وجهلهم، وفضح بالأدلة خطيئة لجنة التحقيق التي أسقط مصداقيتها اعتراف أبرز أعضائها بأنها شكلت لأسباب شخصية بحتة، وجدت نفسي أمام حقائق وأرقام تعلن لأول مرة وألقى بها د. حسان عن كاهله قميص عثمان؛ ليحرك كل المياه الراكدة في القطاع الذي قال بأنه كافح فيه كل الظروف السيئة ليرى البسمة على وجوه المرضى ولو اضطر أن يعمل شحاذا ومتسولا.. الدكتور الذي يقرض الشعر ويهوى علم الأفلاك ابتدأ بطرح أسباب انطفاءته بعد فترة تألق قائلا: تقاعدت رغما عن رغبتي بسبب النظام العقيم للتقاعد رغم قدرتي على العطاء كطبيب جراح وأستاذ جامعي، وما زلت على قناعتي بعد ثلاث سنوات من أنه قرار خاطئ بالرغم من التعديلات التي تستحدث بالتمديد لعدة سنوات؛ لأنه يهمل نقطة مهمة جدا للطبيب ولغيره وهي أن الإنسان أصبح في قمة عطائه وقمة تبلور خبرته العلمية والعملية، فقد كان لي شرف التدريس في الجامعة أكثر من 25 سنة في تخصص نادر لم يشفع لي في البقاء على الأقل مع طلابي، مع أن أمثالنا من الأطباء والأساتذة تتبلور خبراتهم في تدريب أجيال جديدة من الأطباء، ولاحظت هذه المسألة في جامعة الملك عبدالعزيز ولكننا تجاهلنا ذلك وحرمنا الأجيال من الاستفادة من خبرة أستاذ استثمرت فيه الدولة سنين طويلة، بل ذهبنا إلى أبعد من ذلك فتناسينا الدور البحثي العلمي للأساتذة وهو من أعظم الأمور في دول أوروبا وشمال أمريكا وبدونه لما تقدمت البشرية ولما هبط الإنسان على سطح القمر، ولما أرسلت مركبات إلى المريخ ولما أجري الاستنساخ، وغيرها من آلاف النتائج التي تم التوصل لها من آلاف البحوث التي خصصت لها ميزانيات رهيبة، أما عندنا فما يحز في النفس أنني عندما تحدثت مع ثلاثة وزراء سابقين للصحة عن هذا الموضوع قالوا لي كلهم: ليس لدينا ميزانية لهذا الكلام. • ربما كان موقفهم من مفهوم راسخ أنها وزارة خدمات ليس إلا ؟ - هذه نظرة خاطئة وأنا أعتقد أن وزارة التعليم العالي يجب أن تهتم بهذا الأمر أيضا، والغريب أنك لو نظرت إلى القطاع الصحي لدينا لوجدته يتكون من وزارة الصحة والقوات المسلحة والمستشفيات التخصصية والمستشفيات التعليمية الجامعية ومستشفيات قوى الأمن، فستة أو سبعة قطاعات تمثل الصحة في بلادنا وكل قطاع له نظام خاص ورواتب مستقلة، ولا أخفيك أن البحوث والتجارب التي قمنا بها في المركز لزراعة القلب والصمامات على أبقار وقرود أهديت لنا من د. حسن حجرة رئيس بلدية الطائف سابقا لم تتم إلا بالشحاذة والتسول من د. محمد عبده يماني رئيس جمعية القلب الخيرية السعودية ورجال الأعمال الذين لم يقصروا معنا . • ولكنهم وقفوا معكم في برنامج جراحات القلب قبل سنوات ؟ - أنا أعلم بخفايا الأمور التي كانت تحدث في جراحات القلب المكلفة دائما، ولا أتردد في أن أقول بأنني ذهبت عندما بدأ البرنامج عام 1982م لوزير الصحة آنذاك فطلبت منه شراء صمامات للمرضى، فقال لي: لا أستطيع أن أشتري لك صماما بسبعة آلاف ريال. فيما الواقع يقول إن أقل المرضى يحتاج إلى صمام أو اثنين في وقت واحد ويعتمد الأمر أيضا على النوع، فالصمام المعدني يكلف سبعة آلاف ريال فيما يكلف النسيجي البقري 10 آلاف ريال وتكلف الرئة الصناعية من 1000 إلى 2000 ريال بالإضافة إلى الفلاتر وغيرها والتي تصل في مجموعها إلى 25 ألف ريال تقريبا وكلها مستلزمات طبية لا يمكن إجراء جراحة قلب مفتوح بدونها، وتصور أننا نعمل خمس عمليات من هذا النوع أسبوعيا تكلفنا 125 ألف ريال بمعنى ستة ملايين ريال سنويا فقط للمستلزمات الطبية وهذا الكلام إذا عملت عملية واحدة في اليوم فما بالك ونحن نتلقى كل المرضى من كافة أنحاء المملكة كمستشفى عام في وزارة الصحة بحكم أننا مركز رئيس، يقبل الحالات الخطرة في الوقت التي يرفضها آخرون في مناطق أخرى فتصل التكلفة إلى 16 مليون تقريبا والميزانية لا تكفي. كنت أطلب الصمام بمعاملة طويلة تدور في فلك البيروقراطية القاتلة «اللي تطلع الروح» ولو جاء لا يعطونا غيره، وأقولها صادقا بأنني خذلت من الوزراء الذين كان ينبغي أن يكونوا أكثر تفهما لموقفي كطبيب، خصوصا د. أسامة شبكشي زميل عمري الذي شاركني نفس الطاولة منذ طفولتنا إلى المرحلة الثانوية حيث درسنا في مدارس الأورمان في مصر، وما زلت أتذكر حادثة مريض اسمه علي القرني انتظرنا أكثر من شهر لنحصل له على صمام من الوزارة، ولولا أننا تلقينا دعما كبيرا من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله الذي لم يبخل علينا بشيء وبعض أهل الخير لكنا في موقف لا نحسد عليه مع المرضى. • لكنك أجريت عددا من العمليات وأعلنت عنها في الصحف كأوليات في الكشف الطبي ثم بعد أيام أو أسابيع تتوفى الحالة ؟ - أنا اتشرف أن مركز القلب في مستشفى الملك فهد رحمه الله في جدة هو المركز الوحيد الذي قبل أكبر عدد من الحالات لأننا مستشفى عام وهناك فرق أن تكون مستشفى قوات مسلحة أومستشفى حرس وطني أو مستشفى تخصصي، فقد قبلنا أعدادا رهيبة ونزل عندنا كل المرضى المحولين من مستشفيات ومستوصفات وزارة الصحة في كل أنحاء المملكة، وجاءت علينا أوقات عملنا فيها خمس جراحات قلب يوميا على مدى خمسة أيام في الأسبوع، بمعنى 25 عملية أسبوعيا وقد استفدنا من هذا العمل خبرات كبيرة، فأجرينا أول زراعة قلب مزدوج في القارة الآسيوية وأول زراعة قلب صناعي معدني وأول عملية تعديل قطري لمرضى فشل القلب، وأول عمليات لتغليف الشريان الأبهر للفشل القلبي في العالم وكتب عنها في كتاب البروفيسور كاربنت في باريس، وأول 134 عملية ليزر لإعادة تروية عضلات القلب بالدم، فنحن لدينا قائمة بالإنجازات وكل عملياتنا مجانية . • تحدثت عن النجاح لكنك لم تتطرق لمحاولات الفشل ؟ - النجاح غير الوفيات والوفاة الجراحية هي وفاة المريض بعد جراحة القلب المفتوح أو المقفول في مدى ثلاثين يوما، وقد تعمل عملية لإنسان ولم يستفد منها فهذا ليس نجاحا، وأنا شاهدت حالات توفت في مراكز عالمية خارج المملكة في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية يعود فيها المريض إلى المستشفى بعد إجراء العملية بشهرين أو ثلاثة أشهر وقد سدت عنده الشرايين التي وضعت له فالمريض حي لكنه مصاب بذبحة وهذا ليس نجاحا. أعتقد أن النجاح هو أن لا تحدث وفاة جراحية ولا مضاعفات، ثم النجاح الأكبر أن يشفى المريض من الأعراض التي كان يشتكي منها . • هل تعتقد أن عملية غسل القلوب بماء زمزم قبل 25 عاما والتي توقفت فجأة بعد ذلك وسيلة ناجحة ؟ - لم نبدأ هذه الخطوة بشكل عشوائي وإنما درسناها بتأن وأجرينا عليها تجارب ودرسنا ماء زمزم وتكويناته وتعقيمه ونقاءه للتعرف على ما ينفع المريض وما يضره، ونحن نغسل بكلوريد الصوديوم التجويف الصدري الذي يجلس فيه القلب فقلنا لماذا لا نستخدم الزمزم بدلا منه أو إضافة له، ليس من باب المقارنة ولكن كمبدأ وكلنا يعرف قصة غسل قلب الرسول عليه السلام فاخترت اثني عشر مريضا بشكل عشوائي وقمنا بغسل تجويف القلب أيضا بالزمزم لبعض الحالات من باب البركة، والحقيقة أنني لمست ارتياح المرضى الذين جاءني اثنان منهم بعد ثلاثة أشهر وأبدوا ارتياحهم وشعورهم بنوع من الصفاء والنقاء وهذا الكلام أسعدني ولكنه لا يعني أنه بسبب ما فعلناه، فأثار نشر جريدة المسلمون آنذاك الموضوع لحدوث أخذ ورد ما بين مؤيد ومعارض للفكرة فوجدت أنني أدخلت نفسي في صداع وجدل فقهي وعلمي لا داعي له فتوقفت وإن كنت تلقيت اتصالات من مؤيدين للفكرة ومنهم الأديب عزيز ضياء رحمه الله والذي طلب أن أجري له عملية قلب مفتوح وأن أغسل قلبه بماء زمزم ولكن الوقت لم يسعفني لذلك. • ماهي أكثر أسباب خسارتكم للحالات ؟ - أغلب الحالات التي فقدناها ويفقدها أي جراح قلب محليا وعربيا وبنسبة 99 في المائة؛ هي حالات خطرة ومتقدمة وناتجة عن إهمال في التشخيص والعلاج الطبي، وبعض هذه الحالات عندما تعرض على أطباء في أوروبا يتم رفضها فيما نحن نصمم أن نعمل لهم هذه العمليات من باب إنقاذهم وقد تكون هناك أحيانا خطورة ولكن إذا شهد أهله الوضع وتقبلوا الخطورة، فأنت تنقذ من مجموع 100 مريض أعدادا كبيرة كان يمكن أن يكونوا في عداد الموتى خلال أسابيع أو أيام . • ألا تعتبرها مجازفة بأرواح الناس ؟ - ليس من نبل الأخلاق لأي طبيب أن يرفض إجراء عملية من أجل أن يحتفظ بسجل وإحصائيات جميلة ونظيفة ومن أجل أن يقول عندي أقل الوفيات، ولعلمك فنحن نعاني للأسف في الشرق الأوسط عموما من إهمال التشخيص والعلاج من قبل الأفراد أو من عدم وجود إمكانيات في أماكن تواجدهم خصوصا ممن يأتون من البادية، وهناك نسب عالمية معترف بها ويجب مراعاتها شريطة أن يكون المريض في مراحل مقبولة من مرضه، ففي الصمامات تكون النسبة من 3 إلى 5 في المائة تقريبا، وفي جراحة القلب في العالم من 1 إلى 2 في المائة، أما في جراحات الشرايين التاجية وفي جراحات الأطفال فيوجد نوعان فما يتعلق بالتشوهات البسيطة، مثل ثقب في الأذينين فهذه وفياتها أقل من 1 في المائة أما في التشوهات المعقدة كانعكاس الشرايين الكبرى فالنسبة فيها أكبر، وكلما جاء المريض متأخرا كلما كانت نسبة خطورة وضعه أكبر أما خلاف ذلك فلا خطورة ما دام قلب المريض ما زال قويا وضغطه الشرياني غير عال، كمن نشاهدهم في أوروبا وأمريكا حيث يوجد لديهم نظام طبيب العائلة غير الموجود في بلادنا وهذا النظام يضمن فحص المريض بطريقة دورية مستمرة . • ألم تقترحه للوزارة ؟ - لم يكن موجودا من قبل، ولكنه بدأ الآن ولكن ليس بطريقة طبيب العائلة، بحيث يكون لكل مريض ملف متابعة دورية مثل السيارات مثلا، وأعتقد أنه قد حان الوقت لتهتم كل أسرة بمبدأ طبيب العائلة بحيث تختار طبيبا تتواصل معه سواء في مستوصف الحي أو في المستشفيات الأهلية، وللأسف أننا سمعنا عدة مرات من وزراء سابقين أن هذا الأمر سيحصل ولكننا لم نر شيئا . • هل هناك خطورة من إهمال هذا الأمر ؟ - بدون شك، وأعطيك مثالا فبعض المرضى ممن عملنا لهم جراحة القلب المفتوح واستبدلنا لهم صمامات تالفة بصمامات معدنية صناعية نعطيهم أدوية تمنع تجلط الدم مدى العمر ونطلب منه أن يقيس كل أسبوعين أو ثلاثة نسبة تخثر أو سيولة الدم، فبعض هؤلاء المرضى يعتمد عليهم والبعض الآخر يهمل وليس هناك متابعة لحالته، فتفاجأ بعد شهر أوشهرين بمكالمة من مستشفى في الليث أونجران ليقول لك: إن المريض الفلاني دخل عندنا ولديه نزيف شديد لأن سيولة الدم بلغت 30 أو 40 بدل أن تكون 15 أو 20، وهذا يثبت لك للأسف بأنه بدون متابعة من طبيب عائلة أو مستوصف متخصص فإنه يصعب جدا أن تشرف على علاج مريض أو تشخص مرضه، فلا بد من تبني مشروع طبيب أو مستوصف للعائلة. • هي مشكلة وعي صحي أصلا يا دكتور ؟ - والله هذا مربط الفرس في الموضوع؛ فأنا مثلا اطلعت على بعض ما يدرس من وعي صحي في مدارسنا فوجدته ضعيفا وهزيلا جدا، بالمقارنة بما يأخذه الطلبة في سويسرا مثلا، فالتلاميذ في كل أوروبا يتعلمون الإنعاش القلبي بحيث يمكن للشخص أن ينقذ أية حالة لإنسان يسقط في الشارع فيعمل لها تدليك وتنفس فينقذ حياته، وهناك أناس كثر يتم إنقاذهم في أوروبا من قبل المواطنين قبل أن تصل سيارة الإسعاف، كما أن أغلب جلطات القلب يعملها الفنيون في البيوت فيمكن تلافي حدوث مضاعفات أو رجفان في القلب، أو مشكلة جديدة للمريض فيعطى المصاب مذيب الجلطة في منزله قبل أن يتم نقله إلى المستشفى باستخدام نظام التيليمتري التقني، أو التشخيص عن بعد بحيث يضع الفني سماعة التليفون على قلب المريض فينقل المعلومة إلى المستشفى أو مركز القلب فيتلقى التعليمات بالدواء المطلوب للمريض، وهذا التواصل للفريق الكامل يوفر رعاية أفضل وحسن تصرف سريع . • ولا شك أن الإهمال أيضا يؤدي إلى حدوث وفيات مؤلمة ؟ - الشيء المؤلم لأي جراح أو طبيب أن يفقد مريضا لأن مهمتك أن تنقذ حياة إنسان (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) لكن للأسف لا تستطيع أن تنقذ كل البشر، وأنا عندما تحدث عندي حالة وفاة أتعب نفسيا وتتأثر أسرتي كلها من الحزن والاكتئاب الذي يحيط بي، ومن الصعب علي أن أفصل عملي عن حياتي العائلية لكن ما يخفف عني دائما أنني بذلت كل جهدي أمام الله، وتبقى أسباب فقد المريض مرتبطة بأمور عدة منها: ظروف مرضه وخطورة الحالة أو تقدمه في العمر أو ضعف عضلات قلبه أو ما شابه ذلك. ولكن هذا الوضع المحزن يعطينا الدافع في اليوم التالي لإنقاذ أناس آخرين، فتجد الطاقم كله يشد حيله فنقبل حالات أكثر . • بالمناسبة.. لماذا توقف مشروع إنشاء مركز وطني لأمراض جراحة القلب في جدة والذي كان مخططا له؟ - الدراسة كانت جاهزة ولا أعلم أسباب إيقافها حتى الآن. • البعض قال إنك كنت أحد أسباب توقف المشروع لأن الداعمين شعروا أنك تنسب النجاح دائما إلى نفسك؟ - عندما بدأنا عام 1982م لم يكن هناك جراحو قلب سعوديون بتاتا، ما عدا الزميل الدكتور محمد راشد الفقيه في مستشفى القوات المسلحة في الرياض وأنا في جدة، وكان معي جراح صيني اسمه (تشو) غادر إلى بلاده في وقت مبكر فكنا نعمل لوحدنا في البداية وتعبنا كثيرا لعدم وجود الكوادر المساعدة من المتخصصين، فأمامي من الجهة المقابلة يجب أن يكون هناك مساعد جراح والمفروض أن يكون لديه خبرة في جراحة القلب، ولعدم وجود هذا العنصر كنا نستعين بجراحين عامين من أقسام الجراحة العامة، وهؤلاء خطرون، ففي إحدى العمليات خلع أحدهم الأنبوب من الشريان الأبهر لمريض لولا أننا تداركنا الوضع، ولم نكن نقبل بكل من يأتي، فلا بد أن نتأكد من شخصيته الثابتة وعقليته الناضجة وأنه قابل للتدريب ولديه جلد، فبعض العمليات تستغرق من 10 إلى 12 ساعة ولا مجال فيها للخروج من غرفة العمليات، واستمر حالنا بهذه الصورة إلى أن تفهمت وزارة الصحة الوضع فأتت لنا بأطباء من بلدان عربية، ولم يتحسن وضعنا إلا بمجيء الدكتور خالد البراهيم بعد حرب الخليج كأول طبيب سعودي متخصص، فعملنا سوية وتركت له الفرصة ليقوم بأكثر من 700 جراحة قلب مفتوح فأنا لم أستأثر بالشهرة لنفسي وإنما تبنيت آخرين ليستفيدوا ويشاركونني الأجر والنجاح في نفس الوقت. • كيف عالجتم الحاجة إلى إجراء تجارب في ظل ضعف ميزانية البحوث ؟ - الممارسة أفادتنا كثيرا وأعطيك مثالا: فالصمام الميترالي مثلا يستغرق إقفاله من ساعة إلى ساعة وربع بالنسبة للآخرين، فيما لا يستغرق منا أكثر من 15 دقيقة فقط، وقد طورنا طرقا خاصة بنا أنا والدكتور خالد البراهيم لزراعة صمام معدني في قناة أنبوبة دكرونية لزراعة شرايين القلب التاجية، وأجرينا عليها تجارب تدربنا عليها أربع إلى خمس مرات في مكتبي، وكانت العملية رائعة ونجحت وتم الكتابة عنها في مجلة عالمية، ثم جاءنا أتراك فتبنوا طريقتنا ونجحوا فيها، وعملنا طريقة ثانية قصصنا بها الوريقات النسيجية لصمام بقري نسيجي وتركنا الحلقة داخل حلقة الشريان الأبهر لنزرع صماما معدنيا بديلا للصمام الطبيعي التالف في حالة وجود صمام داخل القلب ونجحت العملية ونشرناها في مجلة جراحة الصدر والقلب العالمية الأمريكية الرائدة . • الغريب أنك ظللت في دائرة المواجهة مع المسؤولين دائما رغم نجاحاتك ؟ - أي نجاح له أعداء والقافلة مضت والحمد لله، وسأظل أقول إنه مهما حوربت وعانيت من بيروقراطية مريضة في وزارة الصحة قبل أن يتسلم مسؤولياتها الزميل الدكتور عبدالله الربيعة الذي أحمل له كل احترام فقد كانت تلك المعوقات دافعا لي ولزملائي لنصنع البسمة على شفة كل مريض، وكسب علاقات حب أعتز بها مع كل المرضى ومنهم من سمى أبناءه بأسمائنا وهم أكبر رصيد جمعته في حياتي، ويكفيني فخرا وقفة الرجال من أهل الخير معي وما أشعر به من سعادة في أي مكان أذهب إليه . • بمعنى أنك كسبت حب المرضى وخسرت حب بعض المسؤولين لك ؟ - قد يكون للجهل بطبيعة جراحات القلب وعدم القدرة على تقييمها دور فيما حدث من قبل بعض الأشخاص في وزارة الصحة، أما كبار المسؤولين في بلادنا فحظيت بثقتهم ومحبتهم وتواصلهم الدائم وتعاونهم معي . • هل من المعقول أن يشكلوا لجنة تحقيق معك من فراغ ؟ - هذا باب لا أحب أن أطرقه ولكن الحقيقة أن الفريق الذي جاء للتحقيق معي كان مدفوعا بالغيرة وأسباب شخصية، بدليل أن أحد أعضاء الفريق المهمين اتصل بي شخصيا وقال لي إنه أخطأ في حقي وأنه خدع بما قيل له، وسألني إن كنت أقبل أن يأتي إلى جدة فيستسمح مني لأصفح عما فعله بحقي وحق المرضى فأخبرته بأنني متنازل ومتسامح عنه. • هذا كلام خطير يا دكتور ؟ - هذا الكلام موجود حتى في أمريكا فهناك أطباء يكرهون بعضهم لكنهم يتناسون كل شيء إذا دخلوا غرفة العمليات ويتعاونوا لإنقاذ المريض وفي أمريكا مراكز طبية كبرى سيئة جدا سمعت وشاهدت فيها الجراحين يشتمون ويهزأون من بعضهم وهذه غيرة وحسد طبيعية ولا تمثل واحدا في الألف تقريبا . • أنت تتكلم عن اتهامات لوزارة مسؤولة بلا دليل ثابت ؟ - هذا باب لا أود الدخول منه لكنني أوضح لك معالم الصورة كما رأيتها، فجراحة القلب والمخ من أكثر الجراحات تعقيدا في الجسم البشري ومن أخطرها وأكثرها تقدما، خصوصا جراحة القلب بما فيها من إبداع وابتكار وتقنية وكل جراحة فيها مختلفة عن الثانية؛ وإذا لم يكن عندك صبر ولست متمرسا في الجراحة العامة وليس لديك قدرة على الإبداع والابتكار، فلا تلتحق بجراحة القلب والأحسن أن تظل في أية جراحة أخرى، ومثل هذه الجراحات تحتاج إلى دعم إداري ومادي وفني وطبي ولو أحضرت مجدي يعقوب أحد أشهر جراحي القلب في العالم إلى مستشفى الملك فهد براتب 5 ملايين دولار في الشهر فلن يوافق!! لأنه يفتقد للدعم بدءا من الدعم الإداري، فالمخازن لم تكن جاهزة لتعطيك معلومات واضحة بالموجود فيها من صمامات لكي لا تفتح قلب مريض فتحدث كارثة، ويجب أن تعرف أن هناك 10 مقاسات من الصمام المترالي مثلا من 19 إلى 33 وأنت لا تعرف المقاس الذي تحتاجه إلا بعد أن تفتح قلب المريض فيجب أن تكون لديك مراقبة دائمة للمخزون فإن لم يكن لديك فيجب أن توفره من الشركات والتي بدورها لا تعطي إلا مقابل الدفع نقدا، خصوصا في الفترة التي عانت فيها هذه الشركات من تأخر مستحقاتها لدى الوزارة، فقد عانيت من هذه المسألة قبل 15 سنة بشكل رهيب، وأعتقد أن الأوضاع أفضل الآن، ففي إحدى المرات لم نجد الأسلاك المعقمة وأحيانا لا نجد المياه في المستشفى ولدينا عملية طارئة في الليل، فتضطر الممرضة لاستخدام المغراف لتأتي بالماء وفي أحيان أخرى لا نجد المادة التي نعقم بها المريض، وكان عندنا ممرض نرسله دائما ليشتري لنا المادة بمائة ريال من الصيدلية فهذه أمور صعبة جدا ولا تستطيع أن تستمر فقط على التبرعات والاجتهاد الشخصي، ولا بد أن تكون هناك نظم، وفي الوقت الذي بدأ فيه زملاؤنا في الرياض من خلال المستشفى التخصصي العالمي، كنا نحن نكافح تحت ظروف سيئة جدا في مستشفى باب شريف في جدة، ورغم ذلك حققنا نجاحا يفوق ما حققه غيرنا ألف ولا يمكن مقارنة ما حققناه بجهد أي زميل آخر بأي حال من الأحوال، وأزيدك من الشعر بيت فزميلي الدكتور زهير الهليس في المستشفى التخصصي في الرياض فلم يسبق له أن تبهدل على مدى 25 سنة في طرق أبواب المخازن والمشتريات كما فعلت أنا، وكل ماكان عليه أن يفعله كل سنة أن يحدد احتياجاته وانتهى الأمر . • هذه الصدامية والحدة هل كانت سببا في قرار الدكتور شبكشي وزير الصحة السابق بإعادتك للجامعة ؟ - الدكتور شبكشي لم يطلب إعادتي للجامعة وإنما كان هذا قراري الشخصي، واتخذته للأسف عندما وجدت أن المركز الذي يقدم خدمات جليلة لمرضى القلب على مدى 25 سنة تمت محاربته تدريجيا إلى أن توقف، مما اضطرنا إلى الشحاذة والتسول. • وهل تحسن الوضع في المستشفى الجامعي حاليا ؟ - لم تكن هناك جراحة قلب في المستشفى الجامعي إلى ما قبل خمس سنوات بالرغم من وجود 30 غرفة عمليات، ولا يعمل منها إلا بضع غرف، والآن بعد أن فتحوا جراحة القلب يعملون بشق الأنفس عملية إلى عمليتين أسبوعيا، أما في مركز القلب في مستشفى الملك فهد فجاء له الزميل الدكتور محمود الغالبي، وتم دعمه بعدد من الأطباء العرب لكنه ما زال يعاني ولو بدرجة أقل ولا يستطيع أن يعمل أكثر من ثلاث عمليات أسبوعيا . • ما مدى صحة أن فشل عملية زراعة الرحم كانت القشة التي قصمت ظهرك لدورك المساند لزوجتك الدكتورة وفاء فقيه عضو الفريق الطبي للعملية ؟ - لكي أكون صريحا معك فقد تمت استشارتي في رغبة المريضة التي طلبت من الدكتورة وفاء زراعة رحم لها بعد أن فقدت رحمها من عملية نزيف سابقة، فقمنا بدراسة الأمر من شقين: الدين والجراحة والتجريب، وبعد دراسة الأمر لمدة سنة وأخذ الموافقات الدينية وإجراء تجارب زراعة رحم على إناث القرود في مركز الملك فهد للبحوث في جامعة الملك عبدالعزيز من قبل الفريق الجراحي تم إجراء الزراعة التي استمرت أكثر من 17 ساعة حيث تم أخذ الرحم من المتبرعة وتأكدنا من عدم وجود أورام أوالتهابات فيه وقمنا بتشريح المستق من المريضة المستقبلة وفتح الغشاء البلوتوني والحوض ووضع وزراعة الرحم نفسه، ثم إيصاله بالشرايين التي تغذي الأوردة التي تطرد الدم الفاسد، والتي لا قيمة للرحم بدونهما وكان دوري في العملية إدارة وتنظيم العملية وتنفيذ برنامج المناعة، وأهم ما حدث بعد العملية بشهرين حصول الدورة الشهرية للمريضة مما يثبت أن التروية طبيعية والزراعة نجحت لأن الدورة الشهرية تعني أن الغشاء المبطن للرحم يتم فصله بالتمزق بعد 28 يوما وخروجه كنزيف، ولكننا فوجئنا في الشهر الثالث على غفلة بحدوث رفض شديد يصعب التكهن به فاضطررنا لاستئصال الرحم المزروع، فقيل من المتربصين بنا أنها فشلت مع أنني أرى أنها نجحت، إذا كنا نريد أن نتحدث بمعايير علمية لمراحل تطور الطب البشري. • لكن الوزارة لم تكن مطلعة على هذه الأمور فأثرتم حنقها عليكم ؟ - لم يكن اطلاع الوزارة شرطا فقد سبق لنا أن عملنا برامج أخرى نادرة ولأول مرة في الشرق الأوسط، ولم يطلعوا عليها؛ مثل عمليات الليزر وزراعة القلب المزدوج، وللأسف أن بعض الأشخاص في الوزارة تعاملوا معها حسدا وغيرة من موقف شخصي ثم أخذتهم العزة بالإثم . • قيل أنكم تجاوزتم حقوقكم كأطباء مع المريضة في سبيل تحقيق سبق علمي ؟ - نحن لم نلعب بحياة المريضة بل على العكس فقد قمنا بعمل مدروس وفق ستة بروتوكولات معروفة عالميا وانهالت علينا برقيات التهاني من الخارج خصوصا من أطباء في جامعة جوهانسبيرج؛ لنجاحنا في وصل الشرايين والأوردة الدقيقة التي فشلوا هم في القيام بها لرحم صغير. وتصور أن مجلة (اللانسيت) العالمية التي يعتبر أي طبيب في العالم أن نشر بحثه فيها شرف ما بعده، قبلت أن تنشر بحث الفريق الطبي للعملية ومن المؤسف أن أعداء النجاح شديدون عندنا، ولكنني أقول لهم الحمد لله أن القافلة تسير. • كيف ترى مستقبل عمليات القلب في المملكة ؟ - برنامج زراعة القلب والرئة توقف في جميع مستشفيات المملكة لسببين رئيسين وهما: توقف الدعم، وعدم وجود متبرعين جدد، ولو عندك عشرة مرضى محتاجين قلوبا الآن لن تجد قلبا واحدا لهم، في الوقت الذي تقوم فيه معظم دول العالم بوضع القوائم على الكمبيوتر كما يفعل مركز زراعة الأعضاء في الرياض، والذي يقوم بدور كبير بإشراف الدكتور فيصل شاهين. • وأين الجانب التوثيقي من تجربتك ؟ - أنا الآن بصدد كتابة تجربتي في كتاب بعنوان (رحلتي مع القلوب) من سنوات الطفولة إلى الشيخوخة التي فرضت علي مبكرا. • ما الذي خرجت به من تجربتك مع قلوب البشر؟ حب الناس ورضا ربي أكبر رصيد يطوق عنقي، والحمد لله أنني لم أتاخر في يوم من الأيام بصحة مريض بل على العكس فقد زهدت في الدنيا وتركت العروض والإغراءات التي انهالت علي من سويسرا وكندا وفضلت أن أبذل علمي لطوابير المرضى الذين كانوا يصطفون أمام عيادتي كل يوم ولم أخذلهم كما فعل غيري وذهب ليفتح عيادة خاصة ويصبح ثريا من ورائها، وصدقني فما قلته لك أشعر ببركته في صحتي وأسرتي وعلاقتي مع الناس أينما ذهبت وهذا خير من كنوز الدنيا، أما الذين آذوني فسامحتهم لأنني لم أحمل في قلبي يوما ضغينة على أحد .