هناك ثمة أمور تعلق البعض بها وجعلوها مقياسا للعظمة أو النجاح أو الجودة، ولا يعني قولنا إنها ليست مقياسا أنها لا تكون أبدا كذلك كلا، إنما المقصود أنها لا تكون دائما مقياسا، وسأحاول هنا أن أذكر بعض الأمثلة فأقول: * كثرة المشيعين للجنازة ليست مقياسا دائما على عظمة المتوفى وتقواه وصلاحه، وأما ما ينسب إلى الإمام المبجل أحمد بن حنبل ( الموعد بيننا وبينهم يوم الجنائز ) فقد قيلت في ظروف خاصة، وإن كانت مقياسا لكان أصلح الناس وأعظمهم ذلكم الفاسق أو ذاك المبتدع أو تلكم الكافرة ! فقد بلغ عدد مشيعيهم مئات الألوف!! * الشهرة كذلك ليست مقياسا للعظمة، وإلى هذا يشير دائما الأديب علي الطنطاوي فيقول: (ليست الشهرة مقياسا للعظمة، بل ربما اشتهر من لا يستحق الشهرة، وربما نسي من كان مستحقا لخلود الذكر ). ويقول في موضع آخر بأنها أي الشهرة ليست ميزانا للرجال! وللأسف الشديد نجد عامة الناس اليوم يقيسون عظمة الرجل على قدر شهرته فكلما كان مشهورا كلما كان عظيما !! * كثرة المؤلفات ليست دليلا على جودة قلم المؤلف! فالمهم هو الإتقان والتحقيق لا كثرة العناوين!! قال الله تعالى: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ولم يقل أكثركم!!! والعامة اليوم مع قلة الاطلاع غالبا ما يقيسون جودة المؤلف بكثرة تآليفه أو تحقيقاته !! * كثرة طبعات الكتاب ليست دليلا على جودته! فربما طبع من الكتاب ملايين النسخ وهو ضعيف الجودة، عار من التحقيق، خال من الإبداع، ويعود ذلك لشهرة مؤلفه مثلا، أو حسن توزيع الناشر! وربما طبع من كتاب آخر نسخا قليلة وهو عظيم النفع، مليء بالفوائد. * كبر حجم المكتبة الخاصة، وكثرة عناوينها ليست دليلا على ثقافة صاحبها، أو اطلاعه وهيامه بالقراءة! ولا يمكن لنا أن ننكر وجود من يقتني الكتب ليباهي بها ويفاخر يقول السيد عبد الحي الكتاني: ( ناهيك بأمة وصل الحال بهم في التباهي والتفاخر إلى التباهي والتفاخر بجمع الكتب وادخارها وتزيين البيوت والمجالس بكثرتها) وفي هذا المعنى يقول محمد بن بشير: إذا لم تكن حافظا واعيا فجمعك للكتب لا ينفع ولا يكون ذلك دائما، فقد تجتمع المكتبة الخاصة الضخمة، والرجل القارئ المطلع، وأذكر مرة أني زرت العلامة الدكتور ناصر الدين الأسد في مكتبته، وذهلت بضخامتها، وظهرت علامة الاستفهام على وجهي، فبادرني قائلا: لن تجد كتابا فيها وإلا وعليه تعاليقي !! * كبر السن ليس دليلا على سعة الاطلاع والعلم، وصغره على عكس ذلك! فهذا ابن الهائم مات وعمر 18 سنة قال الحافظ ابن حجر : (حفظ القرآن وهو صغير جدا ، وكان من آيات الله في سرعة الحفظ، وجودة القريحة، اشتغل بالفقه والعربية والقراءات والحديث، ومهر في الجميع في أسرع مدة، ثم صنف وخرج لنفسه، ولغيره)، وهذا السيد عبدالحي الكتاني ألف كتابه: (الردع الوجيز لمن أبى أن يجيز) وعمره 16 سنة، وهذا الشاعر الأديب التونسي أبو القاسم الشابي نظم مئات الأبيات وسارت شهرته، وذاع صيته مات وعمره 24 سنة!. * الشهادات العلمية ليست دليلا على علم حاملها، وعدمها على ضعف من لم يحملها! فكم أبصرنا أناسا نالوا من الشهادات أعلاها، وهم خالين من العلم، ونرى في المقابل آخرين لم يحصلوا هذه الشهادات لكن اسمهم المجرد بدون الألقاب أعظم من كل لقب! بل إني أعرف باحثا وأديبا عراقيا واسع الاطلاع له اهتمام بالغ بالرجال والتراجم والأدب العربي، ومؤلفاته مطبوعة وهي غزيرة بالفوائد والفرائد، ومع هذا صاحبنا لا يحمل سوى الشهادة الابتدائية !! وأختم بمثال لكن ليس كسابقيه، بل أخف كثيرا، وهو نفسي الآن ولا بد لي من ذكره وهو : * جمال المدينة، وزخرفها، وأجواؤها الجميلة، ليس دليلا دائما على سعادة وأنس (ساكنها وزائرها)، فها أنا ذا أحرر هذه الأحرف في مدينة أكادير، وكانت قد ساقتني إليها المقادير، وهي أجمل مدن المغرب الأقصى، ووصف جمالها لا يستقصى، ذات أجواء لطيفة، ومبان منيفة، وأشجار عالية، وتطورات سامية، واخضرار لا حد له، وجمال لا ند له، أرمق هذا كله يمنة ويسرة، فلا أرى إلا هما وحسرة، وجدتني مشغول البال، سيئ الحال، الهم يعلوني، والغم يكسوني، لا حبيب لي أوانسه، ولا جليس عندي أجانسه، فلم يدخل علي جمالها الباهر الأنس والسرور !!! وقد يكون الإنسان في مدينة لا بحر فيها ولا شجر، ولا نهر ولا حجر، ومع هذا قد تجده في أنس وسرور، وبهجة وحبور. * باحث شرعي alrasheed [email protected]