قدر لي أن أغيب فترة وصلت لثلاثة عقود من الزمن عن مدينة جدة. وعندما عدت للاستقرار فيها منذ سنوات قليلة كانت ذاكرتي متوقفة عند سنة 1396ه/ 1976م وهي سنة انتقالي للعمل في مدن أخرى غيرها. وبعد العودة إلى جدة تبين لي أن كافة الذكريات الجميلة التي أحملها لهذه المدينة التي كانت جميلة قد اعتراها البلى فتبدلت وتغيرت وتعرضت لعاديات الزمان من كافة الأصناف والأشكال. ومن هذه الذكريات مستشفى الملك سعود الذي كان في فترة الستينيات من القرن الماضي واحداً من أهم وأفخم المستشفيات في جدّة، وكان لا يشبهه في وقتنا هذا غير ما يسمى بالمستشفى التخصصي. ولكم أن تتخيلوا أن استقر في أحد الأحياء الشمالية الجديدة في جدة التي مازلت أنظر لها بعين الذاكرة لأهرب من الحاضر المأساوي المحزن، فأجد أن الحاضر يفرض نفسه عليّ ولا يكتفي باقتحام حياتي وحياة كافة السكان الآخرين، ولكنه يتعدى ذلك نحو ذكرياتي الجميلة فيتسلل إليها ويمعن فيها هدماً وتخريباً. فقد صدف أن الطريق إلى بيتي يمرّ بشارع الأمير سلطان الذي كان من أجمل الشوارع السكنية قبل أن يتمّ تحويله في السنوات القليلة الماضية إلى شارع تجاري مكتظ بالمجمعات التجارية وهدير محركات العربات التي لا تهجع ليلاً ولا تكل أو تمل نهاراً. وفي الطريق إلى البيت على هذا الشارع لاحظت وأنا اتجه شمالا وجود مبنى جديد صغير لا يبعد بأكثر من مائتي متر عن ميدان الآية الشهير الذي يمثل نقطة التقاء حركة المواصلات المتجهة عبر شارع الصالة الملكية (شرق غرب) وشارع الأمير سلطان (شمال جنوب). واعتدت كما اعتاد كافة العابرين لهذا الطريق وهذا الميدان على رؤية هذا المبنى مغلقاً لمدة طويلة قبل أن تنتصب على واجهته لوحة كبيرة تعلن قرب افتتاح العيادات الخارجية لمستشفى أهلي شهير، فاستبشر الجميع خيراً نظراً لعدم توفر أي مستشفى آخر في تلك المنطقة من ميدان التاريخ حتى أبحر. ولكن الافتتاح تأخر لتستبدل اللوحة بلوحة أكبر كتب عليها (مستشفى الملك سعود). ولكم أن تتخيلوا مدى الابتهاج الذي غمرني وأنا أسارع بكل ذكرياتي الجميلة عن هذا المستشفى لفتح ملفات لي ولأفراد عائلتي (قبل الزحمة)، ليستقبلني شاب سعودي مهذب في الاستقبال بابتسامة عريضة حد الضحك من جهلي ويسألني ألا تعلم ما هو مستشفى الملك سعود أجبت بالنفي فقال (هذا – أجارنا وأجارك الله - مستشفى عزل لمرضى الإيدز والأمراض الوبائية). هكذا إذاً، يتم زرع مستشفى لعزل مرضى (الإيدز والدرن والالتهاب الكبدي والتهابات الرئة والحصبة وحمى الضنك) وغيرها من الأمراض المعدية على شارع رئيسي وفي حي سكني مكتظ بالسكان وعلى بعد لا يزيد عن (500) متر عن بلدية أبحر وقرب ميدان يمر به كبار المسؤولين وأهم زوار المملكة من القادة والزعماء، ويمرّ الموضوع بكل هذه السهولة وكأنما هو أمر بسيط لا يستحق أدنى اهتمام. والحقيقة أن هول المفاجأة لم يحجب التفكير عن ذهني بل تبادرت إليه على الفور تساؤلات سريعة فكيف تحول مستشفى الملك سعود أصلا من مستشفى متعدد التخصصات يخدم قطاعاً كبيراً من المواطنين إلى مستشفى لا يخدم سوى شريحة محدودة من حملة الأمراض الوبائية؟ ومن المسؤول عن هذا؟ وأين يعالج مرضاه السابقون؟ ولماذا يستمر مثل هذا المستشفى في حمل اسم الملك سعود يرحمه الله رغم تغير مهمته واختصاصاته؟ فالملك سعود حين أنشأه في حياته أراد له أن يكون مستشفى للجميع وأعطاه اسمه ليمنحه قدراً كبيرا من الدعم، وكان يجب عند تغير مهمة المستشفى أن ينزع عنه اسم الملك سعود ليرفع اسم ذلك الملك الكريم فوق مستشفى آخر حديث متعدد الاختصاصات، أما هذا المستشفى فيجب أن يسمى بمسمى يعكس حقيقته التي يجب ألا تخفى خلف اسم تاريخي عظيم كاسم الملك سعود. ومن خلال البحث المكثف لاستجلاء الملابسات التي أتت بهذا المستشفى لهذا الموقع وجدت تقريراً كتبه مراسل جريدة الشرق الأوسط «علي مطير» (الاثنين 16 ذو الحجة 1426 ه، 16 يناير 2006م، العدد 9911) مفاده أن هذا المستشفى شكل قضية أمنية كبيرة في السنوات الماضية استدعت نقله على عجل من موقعه السابق «استجابة لدعوة من إمارة منطقة مكةالمكرمة للجهات الصحية في المنطقة، بسرعة العمل على نقله من موقعه السابق في مدخل ميناء جدة الإسلامي إلى مكان آخر يمكن السيطرة عليه أمنيا، وذلك على خلفية هروب بعض - سجناء الحجر الصحي - من المصابين بمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، وفقا لتوصيات اللجنة الأمنية في الميناء»، «ونصّت برقية عاجلة موجهة إلى مدير عام الشؤون الصحية بمنطقة مكةالمكرمة حول مبررات طلب النقل إلى أنه يأتي بشأن كثرة البلاغات عن هروب - سجناء - من مستشفى الملك سعود بالميناء مصابين بمرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز، وتوفرت معلومات مفادها وجود خمس حالات في المستشفى من السعودية، وثلاث حالات من الجنسيات السودانية والمصرية والتايلاندية» ، وأشارت البرقية في ملاحظاتها إلى أن اللجنة الأمنية في الميناء اقترحت عدة توصيات من ضمنها ما اقترحه رئيس اللجنة الأمنية بالميناء «بنقل المستشفى من موقعه الحالي في الميناء وما يبعثه من قلق على نواحي السلامة العامة لجموع الموظفين في الإدارات الحكومية والمستفيدين من خدمات الميناء، حيث إنه مستشفى حجر صحي مخصص لمعالجة الأمراض الوبائية المعدية ووجوده لا يخدم مصالح الميناء الصحية أو الإسعافية التي تخص الحوادث التي تقع في الميناء» –انتهت، مقتطفات تقرير الشرق الأوسط. وفي تقرير صحافي أكثر تفصيلا عن محتوى المستشفى ونوعية مرضاه نشر «طلال عاتق» مراسل جريدة المدينة (الإثنين 30/7/1431ه - 12/7/ 2010م، العدد 17246 معلومات عن تخصصات مستشفى الملك سعود في جدة الذي يعالج عدداً كبراً من الأمراض الوبائية سبق أن ذكرنا بعضاً ومنها مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز الذي تعاني منه مدينة جدة أكثر من أية مدينة أو حتى منطقة سعودية أخرى. حيث يصل إجمالي عدد المصابين بهذا الوباء في المملكة حسب البيانات المنشورة في التقرير الصحافي إلى (13926) منهم (3538) سعودياً و (10388) غير سعودي!!؟ ومن العدد الإجمالي (505) نساء سعوديات، و (769) امرأة غير سعودية. وبصفة عامة فإن (51%) من كافة هذه الحالات على مستوى المملكة تعالج في مستشفى الملك سعود في جدة. وبالطبع لن أخوض في إمكانية سريان الأوبئة من هذا المستشفى إلى المنطقة المحيطة بموقعه لأن هذا يخرج عن اختصاصي وإن كنت وجدت من خلال البحث أن بعضها – غير الإيدز - يمكن أن ينتقل عن طريق البعوض وما أكثره الآن في شمال جدة، أو عن طريق التسرب من حفر الصرف الصحي لعدم توفر المجاري نحو خزانات مياه الشرب أو طرق العدوى الأخرى المختلفة. ونظراً لأن توجيه إمارة منطقة مكة للشؤون الصحية بنقل المستشفى من موقعه السابق إلى «موقع يقع خارج النطاق العمراني لمدينة جدة» حسبما ورد في تقرير جريدة «الشرق الأوسط» مراعاة للنواحي الأمنية والصحية، لذلك لن أوجه نداء إلى وزارة الصحة التي عالجت مشكلة الموقع السابق للمستشفى بمشكلة أكبر منها ووطنت هذه الكارثة في مثل هذا الموقع المكتظ بالسكان والذي لا يستجيب للتوجيهات الواضحة من الإمارة، ولكنني أوجه نداء عاجلا إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة والمسؤول الأول أمام الله عن صحة ورفاه سكانها أن ينظر بعين العطف لسكان حي المحمدية علماً بأنني لست منهم ويأمر بنقل هذا المستشفى إلى موقع صحي جديد في منطقة مفتوحة بعيدة عن العمران لتنتفي بعض مسببات انتشار الجريمة والأوبئة على مستوى المنطقة، كما آمل أن ينظر سموه في تغيير مسمى هذا المستشفى وإطلاق اسم الملك سعود يرحمه الله على المستشفى الجديد المتعثر في شمال أبحر بعد استكمال بنائه إن شاء الله. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة