ظننت عندما وقعت رواية «فتنة جدة» لمقبول العلوي في يدي كإهداء من مبدعها، أن محتواها سيكون (دراما تراجيدية) لمأساة جدة في يوم التروية عندما داهمها سيل الأربعاء الطوفاني الذي ودعت به جدة عامها الهجري 1430ه، ولكنني بعد أن دلفت إلى صفحات ما بعد غلافها الذي يشي بقتامة ما بعده، أدركت ساعتئذ أن جدة تواجه النكبات بصدر مكشوف ووجه باش لتمنح المفتونين بها ديمومة عشقها. يجيء هذا التهامي مقبول العلوي من أقاصي تهامة الحجاز جنوبا، يهاجر نحوها ممتطيا فرسا فاتنة من لغة مموسقة تنز حواشيها بأنغام قيثارة (داودية) تحكي مفردات فارهة حكاية من صفحات تاريخ جدة طواها الزمن منذ ما ينيف على القرن والنصف راوية بعرف المشهد الثقافي (بكرا) لساردها العلوي، والمدهش أنه جاء بولادة طبيعية مكتملة البناء والنمو، على الرغم من بقائها في مشيمة مبدعها قرابة العامين، وها هي دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت، تمنحها شهادة ميلاد لتكون حاضرة في ميدان الرواية السعودية المتصاعد الوتيرة. ثلاثة شهود ابتدع العلوي بذكاء فطري ومقنن، مدخلا تاريخيا اتكأ فيه على ثلاثة شهود يحدد بما قالوه بيئة المكان والزمان والوهن الإداري والسياسي الذي هيمن على أطراف الدولة العلية (العثمانية)، فكانت جدة كما وصفها الرحالة السويسري عام 1814م (لويس بوركهات) تقوم على ربوة يحيط بها سور شبه متهدم له ثلاث بوابات: شرقية تسمى باب مكة، وشمالية باب المدينة، وغربية باتجاه البحر وهي أصغر البوابات الثلاث، وتأتي شهادة الرحالة الفرنسي شارك ديديه في العام 1857م ليفاجأ بصورة لجدة غير التي سمعها عنها، فيصفها بالمدينة الجميلة الآهلة بالسكان معبدة الطرق وعلى سورها العظيم الحصين أبراج متينة، ولكنها لن تصمد في وجه نيران المدفعية الأوروبية. فهل تنبأ الفرنسي ديديه بما سيحل في جدة في العام الذي سيلي عام زيارته، أم كانت زيارته فأل شر واستخباراتية؟. وقد صدق توقعه فكانت جدة عرضة للتدمير من أصغر أبواب سورها ومن جهة البحر، كما أشار لذلك سلفه الرحالة السويسري وبشهادة ابن جدة صاحب كتاب «أمراء البلد الحرام» أحمد دحلان يشير بسبابته عام 1274 ه (1858م) نحو صالح جوهر أحد تجار جدة بأنه سبب فتنة جدة عامذاك. هنا التقطت سنارة العلوي ذلك الصيد الثمين، فأخرج لنا عملا روائيا إبداعيا امتزج فيه الواقع بالخيال فاستحال على القارئ تصنيفها. ولئن وفق العلوي في فتح هذه الكوة في جدار تاريخ جدة، فقد نجح كذلك في طي الصفحة الأخيرة من روايته من لبه، وحط به في هدوء كمظلي ماهر في أحداث الفتنة – فتنة جدة كما أشركه في فضاءات نهايات حياته في أبطال روايته الحقيقيين والوهميين فياله من (سينارست) حاذق. حرية البوح انداح متن الرواية فيما يقارب 300 صفحة قد تبدو كثيرة، لكنها بأسلوبها السلس ولغتها الثرة الرومانسية العفيفة تجبر قارئها على التهامها كوجبة فكرية شهية في زمن قصير جدا جدا، وأنا أتلذذ بحكاية أبطالها الذين منحهم العلوي حرية الحركة والبوح والاسترسال سواء (بالفلاش باك) أو بجلد الذات أو بالتلظي بالمعاناة شرها وخيرها، غابطا إياه على مهارته ومرونته في الإمساك بخيوط الأحداث قدر استطاعته، على الرغم من الحراك والزخم الذي تقيأوه تنور الفتنة. احترم العلوي القارئ فأثرى ذوقه بتجليات لغتنا العربية الساحرة، فشممت من روايته رائحة العفة النقية وذكرني برواد المدرسة الأخلاقية في الأدب كالمنفلوطي على سبيل المثال، وأيقظ أحاسيسي بتوجس أجاثا كريستي وبؤس فيكتور هوجو، وإني لأقدر في (فتنة جدة) نزوعها للأدب الروائي المحترم، وخلوها من تفسخ طحالب وأدعياء الأدب، رواد مدرسة الفن للفن الذين طفا غثاؤهم في أيامنا هذه، وخصوصا على بيدر مشهدنا الثقافي. أقول لقد وفق العلوي في روايته وإنسانية أبطاله على الرغم من المحطات التي مرت بالأنفس البشرية الضعيفة في فصول الرواية، ولعله اقتدى بما حكاه النص القرآني الكريم، وخصوصا في معالجة الهم البدني تلبس امرأة العزيز وفي مخدعها مع سيدنا يوسف عليه السلام، ويمكن بسهولة الاستدلال على ذلك بما عانته فتنة الشابة الأرملة مع منصور التهامي الشاب الوسيم الناضح حيوية وحياء والذي ما أن يلمحها إلا ويلجم شهوته قول عنترة الشاعر العربي: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي.. حتى يواري جارتي مأواها ولمن يكتنه شخصية منصور التهامي، ويسبر غورها على الرغم من كونها وهمية، سيجد تناصا ظاهريا كما أزعم بينها وبين مبدع الرواية نفسه، وذلك لما أعرفه من خلقة وطبعه. لقد فتح العلوي ستارة مسرح روايته الفتنة وتركنا نصيخ السمع لأبطاله الرواة، واتكأ هو على أريكة خلفنا يتحكم (بريموت كنترول) في عواطفهم وأفراحهم وأتراحهم وتشردهم، وجعلنا نتأوه وتنقبض أنفاسنا ونتلصص بأبصارنا في عتمة ليل جدة حالك السواد الذي صنعته مدافع الحقد الإنجليزي المستكبر. وأكدت الرواية بما لا شك فيه مدى الترهل والضعف وضياع الهيبة التي بشرت بلقب الرجل المريض الذي كان لائقا بالدولة العثمانية، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة على عهد سلاطينها الضعاف. أرنبان مذعوران تأمل أخي القارئ ذلك القنصل الإنجليزي الذي يهرع بثلة من عساكره، فيعتلي مركب صالح جوهر ليقتلع علم الدولة العلية فيسقطه أرضا ويدوسه، ذلك العلم راية الدولة التي يعمل سفيرا لبلاده في أراضيها، ناهيك عن إسماعيل باشا مبعوث الدولة العلية ونامق باشا واليها على الحجاز آنذاك، وعلى الرغم من كبر حجم (شنباهما الأصفران) يبدوان أرنبان مذعوران على مائدة قائد السفينة التي أذاقت جدة سياط نيرانها ثلاثة أرباع اليوم، وبلا هوادة. حاول العلوي ان يبقى على لياقته اللفظية وشاعريته واسترساله طيلة أحداث الرواية، وظل متشبثا بالحبل السري الذي ربطه بذكاء بين فتنة جدة والفتاة الأرملة، وفتنة جدة الكارثة، وذلك لا يغيب عن فطنة المدقق، وقد وفق العلوي في ذلك إلى حد كبير.. كما أفاد إفادة جمة من استغلال تخصصه الأساسي (التربية الفنية) ومعرفته بالدلالات اللونية والأبعاد الضوئية، وخط الأفق، ووظف ذلك بمهارة في عمله الفني هذا.. وعلى الرغم من أن بعض شخوص الرواية حقيقيين، إلا أن العلوي بخياله المجنح جعلهم في مرتبة سواء مع شخوص الرواية الوهميين للدرجة التي تجعل الآخرين حقيقيين. هجرة اليتيم كمتذوق ومتابع للإشرافات الإبداعية المحلية والعربية، أتساءل ببراءة عن تعلق كل مهاجر بالشمال، فقد تراءى لي وأنا أتتبع هجرة اليتيم منصور التهامي عبر قافلة الحج اليماني نحو جدة فأي جاذبية تلك التي نجدها مبثوثة عند كثير من المبدعين باتجاه الشمال، ولعل في مقدمة ما أتذكر الطيب صالح مبدع «موسم الهجرة إلى الشمال».. فمتى تؤوب القلوب الوالهة بالشمال وتدور بوصلة عشقها باتجاه الجنوب الذي أراه قمين بذلك أو كما أظن مبدع هذه الرواية بأن فتنة وأمها قد ضاعت في دروب الجنوب. عضو اللجنة الثقافية في محافظة القنفذة