كنت واهماً عندما فوجئت بقطرة وديعة ناعمة الملمس تحط على عيني وتكبر لتصبح نقطة حائرة في قاع العين أشعرتني بالخجل الشديد وأنا أشاهد فيلم «بونيت» لأول مرة للمخرج «جاك داولين» ولم يخفف من هذا الخجل سوى اكتشافي أن كل من كان يجلس بجانبي تمتلئ أعينهم بسائل متلألئ مثلي تعاطفاً مع الفتاة الصغيرة «بونيت» ذات الأربعة أعوام وبطلة الفيلم التي لا تصدق أبداً أن والدتها توفيت وتركتها للأبد .. الفيلم يروي كيف يرفض الطفل فكرة الرحيل التام .. في نهاية الفيلم وفي مشهد غارق في الدراما الإنسانية ينجح المخرج في إسعادنا باستحضار طيف والدة «بونيت» أثناء زيارتها للمقابر وحيدة ليجعلها تودعها وتودعنا الوداع الأخير وتشرح لها ولنا حقيقة الرحيل التام في مفهوم الطفل وتعود «بونيت» بصدريتها الخضراء لتقول لكل الناس إنها تحدثت مع والدتها وأنها احتضنتها ومنحتها هذه الصدرية الخضراء لتقيها من البرد!! مخرج الفيلم وهو كاتب السيناريو «جاك داولين» يقول إن فكرة الفيلم نشأت عنده بعد التحدث مع مئات الأطفال الصغار حيث وجد أن الطفل حتى الرابعة لا يدرك فعلاً المعنى الحقيقي للموت وأن هذا الفيلم محاولة واجتهاد شخصي منه لليتامى من الأطفال في هذا السن للتعرف على هذه الحقيقة وكيفية التعامل معها .. فلا شيء حقيقياً في هذا العالم على رأيه سوى الموت، استعان «جاك دوالين» باستشارية في أمراض الأطفال النفسية الدكتورة «ماري أن مكروفيه» لمساعدته في إعداد الفيلم وفي النهاية تمكن من تقديم واحد من أجمل الأفلام التي أنتجتها السينما في هذا الموضوع بل وفي تصوري أن الفيلم سيظل ولفترة طويلة وثيقة نفسية حية لكيفية تعامل الصغار وذويهم مع واقع أليم لا يعرف الرحمة اسمه «الموت» عند الصغار، ولقد برع كتاب أمريكيون كثيرون في التعرض لكارثة الموت في حياة الأطفال بطريقة إنسانية هادفة أجملها على الإطلاق «ماذا عن الموت؟» ل جاكي سميث.. الكتاب عبارة عن صور لعصفور يرعاه طفل ويربيه ويكبر العصفور ويتغذى ويصوص ويطير ثم .. يموت .. رحلة كاملة من الصور الجميلة للتفسير المعرفي في هذا الكتاب بما في ذلك الدفن واليوم الآخر .. كذلك برع كتاب ومتخصصون في هذا المجال «كند مايتين» الذي له سلسلة طويلة في مناقشة وتدريب الأهل على كيفية التعامل مع الطفل الذي يفقد أحد والديه أو كليهما ك«أين الفردوس وكيف تقول وداعاً لمن تحب وبعد الوداع ووفاة دب وعندما تذوب الأشياء» أسلوب حضاري لكيفية التعامل مع هذا الخيط الحساس جداً والذي يفصل بين البقاء والفناء والطفل الذي غالباً ما يقابل هذه الحقيقة كقبطان يشاهد أفول سفينته ولا يستطيع فعل شيء سوى التحديق .. التجربة في هذا الشأن لديهم عميقة وثرية وتستحق منا الاهتمام والدراسة والمكتبات لدينا تكاد تكون عاكفة عن الكلام في هذا المجال إلا ماندر والموت لا يفرق بين طفل وبالغ فهو يهبط علينا كفيل حبشي سقط من عمارة.. في النهاية إن كل من فقد عزيزا مهما كان عمره يتمنى أن يكون له حظ «البونيت» في أن يراه ثانية حتى ولو كان في أحلام اليقظة .. فيلم يقودك لبكاء منسي يلامس يتمك يبلل ذاكرتك . يجرح صدأ أبواب الفقد القديم عندك .. يأخذك لشاشة الخيال الخضراء عند الطفل حيث القلوب الملونة والأحصنة الخشبية ذات الأجنحة القابلة للطيران والبراءة التي تستريح في الكفوف بوداعة كنقطة ضوء على جدار أملس شفاف. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة