في معرضه الأخير، الذي افتتح أخيرا في الدوحة، يسافر بنا الفنان السوداني المتميز، إسلام كامل، إلى عوالم متعددة ومدهشة، استقاها من ذاكرة وطن كبير وممتلئ بالكثير من السحر والأساطير. إنها رواية حقيقية، بشخوص عديدين، وبحوارات خصبة يمكن قراءتها، والاستمتاع بها. تماما مثلما تقرأ كتابا مفتوحا متعدد الصفحات. لكن هذه المرة كتبت الرواية باللون وحده، وبعبقرية الحكي المزركش. حمل المعرض عنوان وجوه من الذاكرة، ولا تعني الذاكرة هنا في اعتقادي، ذاكرة فرد واحد، ولكن الذاكرة الجماعية بلا شك، خاصة إن ما أبدعه الرسام، يمثل في لوحات عديدة، عادات وطقوس انقرضت بالفعل، أو توشك أن تنقرض، أسوة بالكثير من موروثات الشعوب التي دحرتها المدنية في تقدمها اللاهث، وسطت عليها ألوان التغيير، ويأتي المبدعون دائما، لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة تلك الحكايات بكل بهائها إلى الذاكرة، وربما تصديرها للأجيال القادمة. في تلك اللوحات المميزة، والتي يسيطر على أغلبها اللون الأخضر والأحمر، تجد بوضوح نماذج من التراث، ليس التراث المتمثل في صياغة البيوت وتأثيثها، وتناثر جرار الفخار، وأسرة الحبال وغيرها فقط، ولكن التراث المعاش أيضا، النساء الحالمات ببراءة، حين يتمثلن عشاقهن فرسانا، الحب الذي يتلبس الجسد، وليس القلب فقط، طوفان في رحلات الأحلام والحياة القروية، والشجاعة والهيبة التي توشك أن تذوب الآن، وأيضا التعرض لحياة المجتمع، ولعل لوحتي رحلة (الكجور) الغنيتان بالألوان والحكي الصامت، ترجعان بنا إلى حياة مجتمع غرب السودان وجنوبه، وهيمنة السحر في وقت من الأوقات، الكجور أو الساحر الذي يهيمن على عقل قريته بإيهامه أن في استطاعته فك السحر، وعلاج الأمراض، ويمارس تلك الطقوس بمشروعية، ومباركة من المجتمع نفسه، وهنا تأتي بعض الخصوصية للسودان بوصفه دولة (آفروعربية)، حين تتلامس تلك الطقوس بما يماثلها لدى المجتمعات الافريقية الزنجية الصرفة. وفي لوحة مثل شيخ الحلة، أي شيخ الفريق، نستطيع أن نعود بسهولة إلى أيام وجود هؤلاء الأشخاص في حياة القرى، وسيطرتهم على مداخل ومخارج الرزق، واستجلابهم للطاعة من الآخرين. ودائما ما تجدهم أكثر أناقة وأعلى صوتا من بقية سكان ذلك الفريق. عموما لوحات كامل في معرضه ذلك، تحتاج إلى قراءة متخصصة ومتأنية، وما ذكرته لا يعدو فهما عاديا لمعرض طفت فيه منبهرا، وغادرته منبهرا.