الصحة النفسية هي الأخرى لا يُمكن أن تكون هبة سحرية نلتقطها من داخل القبعة (مع الأرنب!) ولكن يتم نيلها والظفر بها عبر الاكتداح والعمل من أكثر المواضيع التي يمكن أن تثير الاهتمام لدى القارئين في مجال الحقول الإنسانية، موضوع (الصحة النفسيّة) في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد أو المواطن. هذه القراءات العلمية أو الفكرية تصبح شبه خالية من القيمة إذا لم نحاول مقاربتها مع المجتمع الذي نسكن فيه ونقيم بين ظهرانيه، فمزاحمة الذاكرة بالنظريات العلمية والتجريبية، وتدشين العقل بالكثير من المقولات والأفكار والمبادئ، هي أمور لا تؤتي أكلها إذا لم نقم بجعلها تتلامس وتتعاطى مع واقعنا الذي نصنعه بأيدينا ونقاوم زلاته وهفواته. وعطفاً على عنوان الموضوع يحق لي أن اسأل، ليس بوصفي مختصاً نفسياً، بل من زاوية فكرية بحتة: ما الذي نقصده بمسمى الصحة النفسية ؟ ومن هو الصحيح نفسياً في البداية ؟ إن هذا سؤال كبير ولا شك، ولكن أختصر الجواب مع قليل من الابتسار والاختصار وأقول : إن الصحة النفسية هي أمر شديد الجلاء إذا ما أردنا تبسيط الأمور وليس تهويلها، فالصحة النفسية هي أن يعيش الإنسان في سعادة، وحرية، ورخاء، وأن يحلم، ويتمنى، وأن يعمل لتحقيق أحلامه وأمانيه، وأن يكون له رأيه الخاص والمستقل، وأن لا يعيش في إكراه وقسر وظلم، وأن يتمتع بالعدالة والبحبوحة المعيشية ما أمكن له ذلك. ومن هذا التعريف المبسط يحق لي أن اسأل: هل هذه الصحة النفسية موجودة في محيطنا ؟ إن الجواب هو الآخر لا يمكن أن يكون متسرعاً أو سطحياً، ولكن في نفس الوقت فإن ميدان البحوث والدراسات النفسية يبدو ضيقاً ومتواضعاً بالقياس للكم الهائل من التفاصيل المخبوءة والزوايا الخافتة في مجتمعي، والسبب لا يعود فقط إلى قلة الدراسات الجادة في هذا الحقل، ولكن أيضاً لأن مناخ الصحة النفسية يكاد أن يكون مسموماً وغير معقم، نظراً لأن المقومات المذكورة في المقطع السابق، من حرية ورخاء وطموح وكفاح، هي مقومات توشك أن تكون مختفية أو متوارية عن الأنظار، نظراً لأن الأجندة التعليمية والأكاديمية، ومعها الأجندة الإعلامية بالطبع، لا تسير خلف الإنتاج والإبداع والحث على الإيجابية العملية، ولكنها تتبع هوى الاستهلاك والاتكالية والتقليد، ومكانك سر. إن الصحة النفسية هي الأخرى لا يُمكن أن تكون هبة سحرية نلتقطها من داخل القبعة (مع الأرنب!) ولكن يتم نيلها والظفر بها عبر الاكتداح والعمل ومحاولة أن نكون مستقرين نفسياً أمام الضغوطات التي نتعرض لها يومياً. ويبدو من المستحيل أن تكون ثمة صحة نفسية في بيئة استهلاكية بحتة من الناحية العملية، وضمن مقولات تقليدية واجترارية من الناحية الفكرية، أو ضمن استراتيجيات حشوية واملائية من الناحية التعليمية. إنني هنا لا أريد أن أكون ممعناً في التشاؤم، فلو كنت متشائماً بالكلية لما كتبت هذا المقال من أصله، والذي يفترض به أن يدعو إلى تصحيح نفسياتنا وبعث التفاؤل فيها ! غير أنني لا أستطيع أن أكتم ملاحظاتي فيما يخص وضعنا النفسي، وعلاقته بكافة الجوانب والمجالات التي تحاصر نفسياتنا، من ضغوط اجتماعية وتقوقع فكري وتراجع تعليمي وفساد إداري واضمحلال ثقافي ملحوظ. ومع هذا فإن النفسية الصحيحة والطموحة تستطيع أن تتجاوز هذه العقبات بعد أن تهضمها وتستوعبها وتتمثل حلولها لتتجاوزها نحو أفق أرحب، فلا شيء يدعم الانحطاط والفساد والتراجع مثل أن نستسلم أمامه لتزهق أرواحنا فداء له دون أن ندري ! والحل يكمن في الإيمان الصلب بضرورة الكفاح والنضال لتحسين أدائنا النفسي، والقبول بوجود ضغوطات وضرورات حياتية لا نكاد نعيش إلا من خلالها، فالقيود التي تحيط بنا هي ضرورية للتعريف بموقعنا من هذا الوجود الذي نتموضع فيه ونرسف في أغلاله، ولكننا بالنهاية «نعي» و»ندرك» أن مثل هذه القيود لن تدمرنا، إنها موجودة، معنا، وهي بوجودها هذا تلح علينا أن نعيها وندركها، وليس أن نستسلم صاغرين راضخين لها، بل أن نقاومها تارةً، ونسايرها تارة، ونراوغها ونخاتلها تارات أخرى. هذا كله يفيد أن الصحة النفسية هي مسألة ممكنة، لكنها ليست دائمة، وإلا لأصابنا الملل والضجر والغثيان، وربما الانتحار، فنحن لن ننتحر ما دمنا نؤمن أننا بإزاء مشكلات نفسية علينا أن نتعاطى معها، ووحده المنتحر من يؤمن أنه لا مشكلة أمامه، لذا فهو لا يجد حرجاً من الانتحار، لأن الموت والحياة عنده سيان.