الأمة الأصيلة هي الأمة التي لاتخشى التغيير ولا تحتفي بالتاريخ البشري دون محاورته، بل تحرك مشغلات علمها وتحاول البحث المتسارع عن أسباب نهضتها ومكامن تخلفها. البحث في مكابح التطور ومعوقات النمو ركيزة أساسية في مشوار نهوضنا، وبقدر تراكم المحاولات التاريخية وبروز نماذج واقعية للتقدم إلا أنها فشلت في إيجاد منطلقات نظرية تسمح لها بالعيش في عالم الماديات المتحرك. إحدى إشكالياتنا التي نعاني إشكالية تقزيم المفاهيم، فالميزان التاريخي لمقدار المساحات الفقهية التي تحرك فيها خطابنا الشرعي. وبالتالي تحركت مجتمعاتنا وكل محاولات تقدمنا إعطاء بعض المعاني مساحات أكبر من مقدارها، في مقابل تصغير معان عن حجمها الطبيعي، لهذه الحالة أسباب مختلفة أحدها الظرف التاريخي الذي احتاج إلى رفد معنى دون آخر ،لكن الخطأ هو الاستمرار على اجترار ذات المقادير رغم تأثيرها السلبي في واقعنا. هل طرح أحدنا لماذا تنسكب عبرات الحجيج وتلبي بواطن صدقهم مناجاة وخشوعا، بينما وفي ذات المساحة تعجز أياديهم عن إلقاء المهملات التي تكسو الأرض في مرمى النفايات، كيف نفسر ضعف المدافعة عن الحقوق وتهشم العلاقات الإنسانية في مفارقة عجيبة مع التزام محض تجسده حالات التعبد السائدة. هاهنا نموذج لتضخيم العبادات القاصرة على الفرد على حساب خطاب شرعي مستند لتراكم فقهي قزم في وعي المسلم أهمية العبادات المتعدية. رغم حضور هذه العبادات في صورة مشرقة سطرها عمليا العصر النبوي. نحن بحاجة لمتخصصين يملكون قدرة على الإبحار في تاريخنا بلغة حب تدفع للتصحيح وإحداث التوازن دون تنكب أو محاولة إلغاء،إنه اتجاه لإعادة قراءة تراثنا الفقهي الاجتهادي بغية بوصلة اتجاهات التوازن بإعطاء كل معنى عباءته، وكل حكم مساحته دون زيادة أو نقصان، حتى نعيد لأمة الإسلام في خطابنا مبادرته الذاتية في خدمة المجتمع وإعادة الحقوق ورفع لواء التنمية في توازن لا انقسام فيه. بين تدين الفرد الذاتي وتدينه المتعدي. وهي مسيرة لو أفلحنا في تجاوزها سنعيد للمسلمين حضورهم الإسلامي الحقيقي وستنكسر في واقعنا لغة التضاد التي نشهدها في سلوكياتنا بين الخاص والعام.