التربية والتعليم آلام وآمال، وشجون لا تنتهي، أصبح التعليم الآن مقياساً لتقدم الأمم وتخلفها، بل سلاحاً لفرض القوة والهيبة في المسرح الدولي. حول قضايا التربية والتعليم، وإشكاليات الهوية، وطبيعة الممانعة والمقاومة، والفجوة بين القيم الإسلامية وواقعنا التربوي، وواقع وزارات التربية والتعليم مع الأكاديميين التربويين وواقعها مع الميزانيات الضخمة المرصودة لها من قبل الحكومات العربية، ومدى مواءمة الواقع للاختلاط بين الطلاب في سنوات الدراسة الأولى، حول هذه القضايا وغيرها يدور حوارنا مع أستاذ الفلسفة التربوية بجامعة عين شمس الدكتور إسماعيل سعيد علي، وإليكم تفاصيل الحوار: صراع الهوية تتحدث كثيراً عن الهوية والمحافظة عليها.. هل لازالت لدينا إشكالية في الهوية؟ من المؤكد أن لدينا إشكالية، فنحن نبتعد كثيراً عن المقومات الأساسية للهوية؛ نبتعد تدريجياً إلى ما هو أسوأ، وعلى سبيل المثال في الناحية التعليمية هناك مزيد من الانتشار للمدارس الأجنبية، وحتى المدارس العربية يتزايد اعتمادها على اللغات الأجنبية كلغة تعليم، وبالطبع لا يمكن لعاقل أن يرفض تعلم لغات أجنبية، لكن أن نعلم المقررات المختلفة بلغة أجنبية هذا هو ما أعترض عليه، وألاحظ ذلك في مصر وأكثر منه في بعض البلدان الخليجية. هجمات استعمارية برغم الممانعات المتزايدة منذ بدايات القرن الماضي لعمليات التغريب هل لازالت نظرية الغزو الفكري قائمة حتى الآن؟ الصراع بين الأمم والشعوب أزلي منذ بداية البشرية منذ قابيل وهابيل ومستمر إلى الآن، والقوى الكبرى تتحسس المواقف وعندما ترى جبهة ضعيفة تضاعف جهدها لاختراقها، فمثلاً الدولة العثمانية عندما بدأت في التراخي والضعف تكاثرت عليها الدول الغربية لتقطيع أوصالها إلى أن انتهت تماماً بعد الحرب العالمية الأولى، وزرعت دولة إسرائيل في قلب المنطقة العربية لمزيد من التمزيق والتشتيت، ولعل سر وجود القوات الإسرائيلية ومن وراءها للامتداد في منطقة النقب جنوباً لكي تفصل تماماً بين الجناح الغربي بما فيه مصر ودول المغرب وبين الجناح الشرقي. أضف إلى ذلك ما يحدث في المناهج والتعليم والإعلام وغيرها. لكن ما كان يسمى غزواً فكرياً الآن أصبح متمثلاً في منظومة العولمة، ألا يمكن أن يكون ذلك تطوراً تاريخياً لعلاقات الدول والشعوب ببعضها ؟ حيلة العولمة جعلت الأمر في صورة مغايرة وهو أن تذهب إلى من يريد غزوك باختيارك، وعلى سبيل المثال حين تنظر الآن إلى الشبكة العالمية المسماة (الانترنت) التي غزت عقل كل إنسان لم تعد القضية بحاجة إلى حصون وأسوار، كذلك الشركات العملاقة الكبرى؛ يكفي أنه عندما تهتز بورصة في أوروبا يهتز العالم العربي معها. هل هذا غزو منظم أم هو تطور في العلاقات الدولية؟ ما يربط الدول ببعضها هو سياسة المصالح، وهم يعرفون أن محافظة العرب والمسلمين على عقيدتهم وهويتهم لا تتيح لهم فرصة تحقيق مصالحهم؛ ولذلك هم يركزون على هذه الجوانب العقدية والثقافية حتى لا تكون هناك مقاومة لمحاولات اختراقهم للعالم العربي. مفهوم القوة انشغلنا عقوداً من الزمن بالمقاومة للحفاظ على الهوية عن بناء نهضتنا وحضارتنا بالشكل والمضمون الذي نريد؟ معك حق؛ فالمحافظة على الهوية ليست مجرد خطب ومقالات وإنما بترجمة الهوية على أرض الواقع؛ بأن يكون لك أدب خاص وشعر خاص وتعليم خاص. وأن تكون لك مشروعات تنموية مختلفة، الحفاظ على الهوية ليست مجرد ممانعة لأن الممانعة لوحدها ستنكسر، العالم يعتمد على القوة والقوة ليست فقط جنود وأسلحة وإنما هناك قوة اقتصادية وقوة تكنولوجية وقوة معرفية، وهذه كلها تمكننا من أن نكون أصحاب شخصية ذاتية لها مقوماتها وبالتالي تستطيع مقاومة الآخر، وأنا لا أقصد بالمقاومة أن نعيش في حالة صراع مستمر لكن على الأقل أن نعامل كأنداد وهذا لن يحدث ونحن في حالة ضعف. الحوار المزعوم نعيش في حالة تناقضات كثيرة في عالمنا العربي بين ما نحن عليه من قيم وعادات وبين ما يفد إلينا من الخارج، كيف نحافظ على هويتنا شكلاً ومضموناً؟ أركان الهوية معروفة: العقيدة، واللغة الوطنية أو القومية، والتاريخ؛ هذا هو مثلث الهوية، وعلى سبيل المثال تعليم الدين؛ هناك حرص على حذف قضايا معينة والتركيز على قضايا أخرى فنجد من يقول لابد من التركيز على الحوار والتسامح والسلام مع الآخر؛ هذه قيم أساسية فعلاً لكن من هو المطالب بالتسامح؟ هل نحن الذين احتلت أراضينا ونضرب ونهان كل يوم نطالب بالتسامح؟! هل نحن المفروض علينا أن نتسامح مع إسرائيل؟ أو عندما يقولون الحوار مع الآخر هل يعني أن نمرر ما يريده الآخر منا؟ أليسوا هم من يحاوروننا بالسلاح والضرب؟ ومع ذلك نحن في مناهج التعليم نرضخ وننفذ ما يملونه علينا، هل أحد طالب إسرائيل بتغيير مناهجها التي تنضح بمعاداة الآخر والدعوة إلى قتله؟ من المفترض أن لا يطالبنا أحد بالسلام؛ لأن كلمة الإسلام عندما تحللها لغوياً تجد فيها السلام وتحيتنا السلام إذن لسنا مطالبون بأن يفرض علينا أحد السلام، وفي الوقت ذاته لا ينبغي إذا ضربنا أحدٌ على خدنا الأيمن أن ندير له خدنا لأيسر. جفوة القيم ديننا وعاداتنا يزخران بالعديد من القيم والمثل وندرسها كثيراً في مدارسنا إلا أن واقعنا يزخر أيضاً بتناقضات لتلك القيم. لماذا الفجوة برأيك بين القيم والواقع في مجتمعاتنا؟ هذه إحدى إشكالياتنا الكبرى "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وهذه في رأيي سببها أننا نركز على الجوانب التعبدية في الإسلام وقليلاً ما نهتم بجانب المعاملات مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "الدين المعاملة" وكأنه يربط بين التدين وبين حسن المعاملة، وحتى العبادات مطلوبة أيضاً لتحقيق أخلاقيات معينة وليست مجرد طقوس وحركات بل تتضمن قيماً ومفاهيم لا نتمثلها؛ ولذلك تجد هذا التناقض الغريب: تزايد في التدين وتدهور في الأخلاق، وأنا أرى أن هذا التدين تدين مغشوش؛ لأن التدين السليم الذي يتضمن عبادات ومعاملات. غول الفضائيات هذا الفصام الذي تحدثت عنه هل يعود إلى أصول تربيتنا في الأسر والمدارس والجامعات؟ بالتأكيد هذه لها دور لكن أنا أركز على ما أسميه "سياق المجتمع العام" يعني مجموعة النظم والتشكيلات التي تسير المجتمع، وعلى سبيل المثال أجهزة الإعلام تتضاءل أمامها جهود الأسرة والمدرسة؛ فعندما ينشغل الأب والأم بأعمالهم يُترك الأبناء للعشوائية التربوية فبعد ساعات المدرسة يترك الأبناء لمؤثرات المجتمع وعلى رأسها هذا الغول المسمى (القنوات الفضائية)، فمن الممكن جداً أن ينسف منظر أو مسلسل ما قامت الكتب والمناهج التربوية ببنائه، خاصة أن تلك المناهج بالإجبار ولساعات معينة لكن مشاهدة التلفزيون فيها مرغبات كثيرة أولها أنها من اختياره إضافة إلى المؤثرات البصرية الأخرى. وهنا تأتي مسؤولية أولي الأمر على الإعلام وليس بالإجبار أيضاً حتى لا تسيس أجهزة الإعلام وإنما بالسياسات العامة؛ فليس من الصعب أن نجمع على أن نقول أن هناك من البرامج ما لا يصح عرضها لكن تبقى هناك مشكلة تعترضنا وهي أن السماوات أصبحت مفتوحة لا أحد يستطيع أن يمنع ذلك. خيالية النظريات هناك انتقاد للمفكرين التربويين بأنهم ينظِّرون كثيراً لقضايا التربية ولا يترجمون ذلك إلى برامج عملية مما سبب فجوة كبيرة بين الواقع التربوي والتربية النموذجية المطلوبة؟ ترجمة الأفكار النظرية من مسؤولية الوزارات التنفيذية كوزارات التربية والتعليم أما الأساتذة في كليات التربية فمهمتهم إعداد الأبحاث والدراسات النظرية والأكاديمية، فهم كالأطباء يشخصون الأمراض ويصفون العلاج، وعلى الرغم من ذلك تجد كثيراً من الدراسات والأبحاث تقترح توصيات وبرامج عمل في نهاية كل دراسة. معنى ذلك أن هناك فجوة بين كليات التربية ووزارات التربية والتعليم؟ هناك أقسام في وزارات التربية والتعليم تسمى (مراكز البحوث التطويرية) أو ما شابهها من الأسماء عادة تكون هي حلقة الوصل بين كليات التربية والوزارات. إذاً أين الخلل؟ لماذا هذه الفجوة بين النظريات التربوية والواقع التربوي؟ أحياناً وزارات التربية لا تتقبل دراسات وأبحاث التربويين الأكاديميين بحجة أنها دراسات خيالية وغير واقعية، ونحن نقول أن هذه الدراسات النظرية يمكن أن تطبق ولو بنسب متفاوتة عن الصورة النموذجية. حقيقةً هناك حساسية دائماً بين أساتذة التربية والقائمين على وزارات التربية، وهذه موجودة حتى في التخصصات الأخرى في الهندسة والطب؛ فالأكاديميون يدرسون ما ينبغي أن يكون عليه الواقع ثم يأتي الدور بعد ذلك على المسؤولين في الوزارات التنفيذية لكي يطبقوا تلك الدراسات. التعليم وتطويره رغم الميزانيات الضخمة في بعض البلدان العربية المرصودة للتعليم إلا أن التعليم مازال متأخراً، لماذا برأيك؟ فكرة الميزانيات الضخمة عندنا فكرة زائفة لأن 70%- 80% منها رواتب ومصروفات إدارية وليست في صلب العملية التعليمية هذه نقطة، نقطة أخرى أن كثيراً من البلدان العربية لا تعطي التعليم أولوية في الإنفاق، وأنا تكلمت كثيراً في هذا فعلى سبيل المثال وزارات الأمن لدينا تحتل أولوية في بلادنا العربية، ولو دققت الحكومات في المسألة لوجدوا أن جودة وارتفاع مستوى التعليم يساهم في نشر الأمن في البلاد، وهناك قول مشهور (كلما فتحت مدرسة أغلقت سجناً)، فعندما يتدين الناس تديناً صحيحاً، وتكون ثقافة صحيحة، وتشغلهم بالهم المعرفي سينشغلون عن الانحرافات السلوكية، وتقل نسبة الجرائم؛ وأفراد المجتمع كلهم يمرون على التعليم، فالأمن الحقيقي هو الأمن المجتمعي. الجميع يقر بأولوية التعليم لكن ما هي نقطة البداية في التعليم؟ نقطة البداية أن تكون لنا رؤية واضحة؛ ماذا نريد من شخصية المواطن أن تكون، لابد أن نحدد بشكل واضح ملامح شخصية المواطن الذي نريده. الإنفاق المرشد هناك إصلاحات وتغيير في المناهج التعليمية بشكل مستمر ما هي نقاط القوة في النظام التعليمي التي ينبغي أن تكون لها الأولوية ؟ المسألة الأولى هي الهوية التي تحدثنا عنها فهويتنا وعقيدتنا زاخرة بتراث تربوي هائل من الأخلاق والسلوكيات التي لا نستخدمها، النقطة الثانية الإنفاق المرشد لأن كثيراً من الإنفاق يصرف في تجهيزات فاخرة وأصول لا تصب في صلب النظام التعليمي، لابد أن يكون الإنفاق في صميم العملية التعليمية كما أن تصميم المباني لا بد وأن يكون عامل مساعد للعملية التربوية، وأرى أن إعداد المعلمين ما زال نقطة ضعف شديدة لدينا فنحن نشدد على أن المدرس لابد أن يعرف معرفة تربوية ولا نشدد على أن يسلك مسلكاً تربوياً. تدور في المملكة نقاشات حول (الاختلاط) بين البنين والبنات في الصفوف الدراسية المبكرة، من وجهة نظر تربوية هل لهذا الاختلاط أثر تربوي إيجابي أو سلبي؟ من حيث الوضع الصحي العام أنا أرى أنه أساسي في السنوات الأولى من الدراسة حوالي الأربع سنوات الأولى... صحي لماذا؟ لأن طبيعة الحياة هكذا لا بد أن يتعرف كل نوع على الآخر، ويتفاهم معه خاصة أن هذه المرحلة فيها براءة وبساطة، والتفاهم هنا سيبنى في جو صحي غير التفاهم الذي يكون بعد مرحلة البلوغ، خاصة إذا كانت الفصول بإشراف مدرسات، فهن الأقرب إلى طبيعة الأم التي يحتاج إليها الطفل في هذه المرحلة، وتعلم احتياجاته بشكل أفضل، وتأثيرها في التربية يكون أقوى من تأثير الرجل، والأطفال عموماً في هذه المرحلة يحتاجون إلى مزيد من الحنان والرقة. الاعتماد الأكاديمي من القضايا التي تساجلت فيها آراء الأكاديميين هنا قضية (الاعتماد الأكاديمي) وأنت قد كنت عضواً في الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد في مصر؟ هناك شروط أساسية ومعايير جودة لكل منتج مادي لا بد من توفرها هذا في صناعة الأشياء المادية فمن باب أولى صناعة البشر، وبما أن التعليم هو الذي يصنع البشر فلابد أن يخضع أيضاً لمواصفات الجودة، لكن المشكلة هي كيف نصل إلى هذه المواصفات؟ أنا ألاحظ من خلال التجربة أن كثيراً من الجهات المهتمة بهذا الموضوع تنظر إلى ما صنعته بعض الدول المتقدمة وتصنع مثلها تماماً، هذا الأمر يمكن أن يكون في صنع الأشياء المادية لكن في صنع البشر لابد من وضع لمساتنا الخاصة بنا كأمة ومجتمع صاحب هوية مستقلة، وبدلاً من أن آتي بالمعايير وأطبقها على الواقع لا بد أن أدرس الواقع أولاً وأصنع معايير لرفع مستوى هذا الواقع، ثم لابد أن يكون هناك تدرج في تطبيق المعايير لأنه وعلى سبيل المثال قد تكون لديك مناطق عشوائية أو ريفية لا يمكن تطبيق معايير متقدمة فيها وهكذا.