كنت في دبي لمدة أسبوعين تقريبا، وغادرتها يوم أمس الأحد، وقد سعدت بمقابلة شخصيات أكاديمية وإعلامية مهمة من بينها الدكاترة محمد عايش ونبيل الخطيب وياسر ثابت وسليمان الهتلان، ومعهم أو قبلهم الإعلامي القدير عبد الرحمن الراشد وفارس بن حزام ومنتهى الرمحي ونخبة من فريق الراشد في قناة العربية، والزيارة كانت لأغراض دراسية، وحضرت خلالها مناسبة غداء أقامها الزميل العزيز مساعد الثبيتي، وضمت الزملاء الكرام ناصر الصرامي والهتلان والمذيعة الأنيقة والمثقفة حسينة أوشيان. بعض الكلمات في الزيارة ما زالت عالقة في ذاكرتي، وسأنسبها إلى أصحابها في مكان غير هذا المكان، وأذكر منها أن الإعلام العربي الحالي يقوم بدور مماثل لشاعر القبيلة القديم، وأن العربية نخبوية والجزيرة شعبوية، والأولى تقود الشارع والثانية يقودها الشارع، وأن أخلاقيات الصحافة الغربية لا تناسب المجتمعات العربية، والبديل الممكن هو الأخذ من الأخلاقيات العامة الموجودة في الإسلام، وتحديدا المتفق عليها في الثقافة العربية، على اعتبار أن العرب فيهم المسلم والمسيحي وغيرهما، ومن أجمل ما سمعت أن الحكومات العربية لا تحتاج إلى الإعلام لإقناع الجماهير أو الناخبين، مثلما يحدث في الدول الغربية؛ لأن المواطن أو الناخب العربي لا يملك قراره، وما يريده السياسي في هذا البلد أو ذاك هو الذي ينفذ في النهاية، وأن الرأي العام مجرد استساخ عربي لفكرة غربية، وللأسف -والأسف ليس لي- لم يأخذ الاستنساخ من الرأي العام إلا شكله وترك مضمونه. المفاجأة الأخرى أن من قابلتهم كانوا يتكلمون بصراحة مطلقة وصادمة أحيانا، بل يعترفون بالأخطاء ولا ينكرونها، ومن أصعب الاعترافات وجود قائمة بالأشخاص غير المرغوب في ظهورهم على الشاشة في محطة عربية معروفة، والتبرير مهني ومقبول جدا ومن نوع أنهم لا يجيدون التعبير عن أفكارهم بطريقة مفهومة، أو يرتبكون ويتلعثمون وترتجف أطرافهم أمام الكاميرا، أو يتلفظون بكلمات جارحة ومستفزة، أو يمارسون عنتريات لتمجيد ذواتهم أو لتسويق مواقفهم وهكذا، وتصرف المحطة -من حيث المبدأ- أخلاقي ويستحق الاحترام، وللأمانة لم أكن أتوقع أو أنتظر هذه الأريحية، وجهزت نفسي لأسوأ الاحتمالات، إلا أنها -ولسوء الحظ- لم تكن جاهزة أو مشغولة، وتوجد معلومات كثيرة وكبيرة لن أكتبها هنا، خصوصا أن نصف الكوب ما زال فارغا نسبيا والصورة لم تكتمل. النتيجة العامة التي خرجت بها حتى الآن، تقول بأن الإعلام ومن أية جنسية، لا يمكن أن يكون مستقلا بشكل كامل، فالاستقلال قد يضر بمصالحه والسوق المستفيدة من برامجه أو إصداراته، والتلويح به وبالحياد والتوازن لا يتم إلا للتعمية واللعب على الناس المساكين، وبالمناسبة الاقتصاد لا يمثل إلا جزءا بسيطا من المعادلة الإعلامية المعقدة في العالم العربي وربما الغربي أيضا، وأشار الدكتور مأمون فندي (2007) إلى أن التكلفة التشغيلية للإعلام العربي، طبقا لإحصاءات 2004، وصلت إلى 17 مليار دولار سنويا، بينما العوائد الإعلانية لم تتجاوز في أحسن الأحوال ثلاثة مليارات دولار، ثم سئل: من يدفع الفرق؟ ومن الأدلة الغربية هروب الصحافيين إلى مواقع على الإنترنت لتمرير أخبارهم ك(ذي ميموري هول) و(كربتوم) و(ويكيليكس)، وكلها تلتزم بخط نقدي مستقل لا يخدم مصالح حكومية أو إعلانية، كما تقول، ويشرف عليها متطوعون لا يتقاضون رواتب مقابل أعمالهم، وموقع (ويكيليكس) المسجل في السويد، على سبيل المثال، محجوب في الصين لأنه فضح بالوثائق قضايا فساد صينية، ولم يشفع له أنه فاز بجوائز من مجلة (الإيكونوميست) و(أمنيستي إنترناشيونال)، وتوجد في الموقع مواد خطيرة حول الانتخابات العراقية الأخيرة، وقائمة عمل توضح القيود المفروضة على المعتقلين في (غوانتانامو). وقال يوشاي بنكلر في كتابه: ذي ويلث أوف نيتوركس (2006) إن المواقع المذكورة تقوم بدور السلطة الرابعة في أيامها الذهبية، وقرأت بأن موقع (ويكيليكس) يحوي مواد حساسة عن مائة دولة حول العالم، معظمها يعاني من غياب حرية الصحافة، وسيادة سياسة تكميم الأفواه وكسر الأقلام، إما بالترهيب أو بالتهميش والركن على الرف، ويعتبر الموقع مصدرا أساسيا لأعمال صحافية نشرت في (نيويورك تايمز) و(الغارديان) و(التلغراف) و(كريستيان ساينس مونيتور) وجريدة (خليج تايمز) الصادرة من دبي و(أوتاوا سيتزن) الكندية و(ذي إيج) الأسترالية و(ذي غلوب) و(الميل) و(الأسوشيتدبرس) و(رويترز) والقائمة تطول. مما تقدم يتضح أن الإعلام يتعامل بثقة معقولة مع ما ينشر في مواقع التسريبات أو كشف الأسرار الإلكترونية، وأنه قد يلجأ إليها كنقطة بداية للبحث في تفاصيل جديدة، بالذات أن الحصول على بعض الأخبار يحتاج إلى ميزانية وروح فدائية لا يقدر عليها الإعلام في هذه الأيام، ولو أن المواقع المشار إليها، بحسب مجموعة من الصحافيين، تظهر وجها راديكاليا وتطبيقا فاشيا ومتشددا لمفهوم الحرية في الإعلام، والسبب أنها لا تضع في حساباتها ردود الأفعال السياسية، أو ما يحتمل أن تؤدي إليه من انتهاك لخصوصيات الآخرين وخرق للاعتبارات والقيم الصحافية، حتى أنصار حرية التعبير يختلفون معها ويرون أنها استغلت هدفا نبيلا للقيام بسلوكيات صحافية متهورة وغير مسؤولة. عموما يسجل لمواقع التسريبات عدم الإعلان عن أسماء مصادرها تحت أي ظرف، إلى جانب توفير معلومات مفيدة للمهتمين دون الإفصاح عن هوياتهم، وأنها لا تنشر إلا المواد المؤكدة وذات القيمة الإخبارية المرتفعة، وفي كل ما سبق إغراء لا يستطيع الصحافي الطبيعي مقاومته، لأنه في الأصل كائن اجتماعي متطرف «لا ينشكح» إلا بمشاركة غيره فيما يعرف من أسرار ولو من دون اسم.. binsaudb@ yahoo.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة