إلى ما قبل «الطفرة» الأولى في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، كانت كل المهن التي يحتاجها المجتمع آنذاك (كهرباء تبليط بناء سباكة نجارة و«تزيين» حلاقين اليوم والزراعة بكل مهنها المتعددة وصيد الأسماك) باختصار كل ما كان حاجة للمجتمع يستجاب له ويمارس ويشغل بسواعد أبناء البلد هذا ما أتذكره وعشته في سنين الصبا في المنطقة الشرقية وأظنه كذلك في بقية المناطق والمدن والقرى وإن بصفة أقل من المنطقة الشرقية نتيجة التأثير الجوهري لشركة «أرامكو» على المنطقة. أتذكر منظر والدي (أطال الله عمره بصحة وعافية) وهو يلبس كل صباح البدلة الخاكي وهو مقاول البناء آنذاك ليمارس كل المهن المتعلقة بالبناء مع عماله من أبناء الوطن. وهو بالتأكيد ليس حالة شاذة بل كان ذاك ممارسة للمجتمع بأسره. وكان ذاك مثار فخر واعتزاز أساسه ثقافة العيش من عرق الجبين. تلك الثقافة التي كانت تعلي من شأن المهنة، اندثرت للأسف الشديد بعد الطفرة حيث أصبحت الوظيفة الحكومية والجلوس على الكرسي الوثير وضمان الراتب بغض النظر عن الإنتاجية هو السائد بل هو «المحترم» من قبل المجتمع، وعلى العكس تم التعامل مع المهن باحتقار واعتبارها وضيعة «للهنود» أو «البنغال» احتقارا للجنسية والمهنة معا. وبدأ تدفق العمالة الأجنبية لسد الفراغ الذي خلفته ثقافة احتقار المهنة التي أنشأتها ظروف اقتصادية معينة. وها نحن نصل اليوم إلى معرفة حقيقة اقتصادية فاقعة تقول لنا إن مليارات الريالات توازي ميزانيات دول فقيرة تخرج سنويا وتستنزف اقتصادنا وخلقت هذه العاهة مفارقة ذات «خصوصية» لبلادنا هي وجود ما يقارب النصف مليون عاطل عن العمل، حسب ما نشر أخيرا، مع وجود ملايين من العمال والمهنيين الأجانب. الجميع الآن يعرف أن معظم البقالات والورشات وشركات الإصلاحات وكل ما يتعلق بالمهن هي ملك للأجانب ومن يعمل فيها هم من الأجانب أيضا. والسعودي إن وجد فهو «سامان ديقه» كما نقول في الخليح واجهة معتزة بكسلها ورضاها بالقليل والهامشي. هذه الحالة خلقتها ظروف اقتصادية صاحبتها ثقافة احتقار المهنة أدت إلى اختلال هيكلي في المجتمع. لأن المجتمع الطبيعي يسد حاجاته عبر مواطنيه ونحن لسنا كذلك. تلك حقائق على مجتمعنا مسؤولين ومواطنين، أصحاب أعمال وعمال ومواطنين أن يواجهوا أنفسهم بها عبر «ليس فقط» الاعتراف بسوء وجودها وضررها علينا، بل العمل الجاد على خلق ثقافة معاكسة تحترم وتعلي من شأن المهنة على حساب صاحب «المكتب» الذي غالبا لا يفعل ولا ينتج شيئا ذا قيمة كما يفعل أصحاب المهن. هنا علينا الاعتراف بوجود «عقدة نقص» اجتماعية تبرر الكسل وحب الكسب السريع والمريح، وهذا ما ثبت من خلال «أزمة الأسهم» في مجتمعنا وتبرر عدم الكفاءة والقدرة التي هي مخرجات التعليم في بلادنا باحتقار المهنة. الخبر السار هذه الأيام هو ما نشرته «الحياة» في 23/10/2010 حول التربية المهنية، ذاكرا أن وزارة التربية والتعليم أدخلت منهجا جديدا تحت مسمى «التربية المهنية» يتيح لتلاميذ المرحلتين الابتدائية والمتوسطة تعلم مهن الكهرباء والسباكة والنجارة، واعتبرت الوزارة على لسان المشرف العام على الإعلام التربوي الدكتور فهد الطياش بأن ذلك يأتي لتلبية ضرورات إكساب طلاب هاتين المرحلتين المهارات الحياتية الضرورية. إنها بالتأكيد خطوة مهمة للأمام لإعادة الاعتبار للمهنة وضرورتها، خصوصا لو تم دمج ثقافة المهنة وضرورتها وأهميتها في المنهج الجديد، رغم أني تمنيت أن لا يقتصر هذا المنهج الجديد على المرحلتين المذكورتين بل أن يشمل المرحلة الثانوية التي هي مرحلة النضج ومرحلة التكون الثقافي والقيمي ومرحلة الاختيارات المفارقة في حياة الشباب. ولو رافق ذلك التفاهم ولا أقول الفرض على القطاع الخاص الوطني الذي عليه أن يثبت «وطنيته» من خلال تشغيل أصحاب المهن من السعوديين برواتب مجزية ومحترمة وتوازي أو تعلو على الأعمال المكتبية. أقول مرة أخرى رجاء إلى وزارة التربية مشكورة في هذه المبادرة أن يشمل برنامجها هذا الثانوية العامة وإضافة تعليم قيادة السيارة بشكل سليم وقوانين المرور وثقافة الطريق واحترام الغير، مضافا إليه مبادئ الميكانيكا، وذاك بالتأكيد لو دعمه المجتمع وثقافته الإصلاحية الجديدة سيحل بالتأكيد معضلتنا التي يبدو أنها استعصت على الحل، ألا وهي البطالة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 193 مسافة ثم الرسالة