استنكر فقهاء وأكاديميون ظاهرة قذف الكتاب الصحافيين والدخول إلى نواياهم واتهامهم بأوصاف لا تليق بالمسلمين، مشيرين إلى أن هذا يسهم في تقسيم المجتمع إلى فئات تحقيقا لخدمة أغراض لا تخدم الأمة. وحذروا في حديث ل«عكاظ» من عواقب هذه الألفاظ الوخيمة على مستقبل المجتمع وأجياله. وبينوا أن الإساءة في الوصف لمجرد خلاف وقع مخالفة صريحة للتوجيه الشرعي الحكيم الوارد في الكتابين القرآن والسنة، موضحين أن أيا من هؤلاء الكتاب باستطاعته مقاضاة أولئك المتحمسين مطلقي هذه الأوصاف إذا لم يثبت عليه ما وصف به. وأوضحوا أن الحديث الذي أدلى به الدكتور ناصر العمر لقناة الأسرة حين وصف الكتاب بأنهم قوم بهت كاليهود، أمر غير مقبول وأن من شأنه إحداث الشقوق في صف المجتمع بدلا من الإصلاح والبناء، لافتين إلى أنه لا عصمة لأحد مهما كان، وأنه لا مانع من بيان الخطأ وتصحيحه علنا. وشددوا على الأخذ بالتوجيه الكريم الصادر من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حينما نصح بالبعد عن تقسيم المجتمع وتبادل التهم والدخول إلى نوايا الناس. وأكد أحد المشاركين أن اتهام الناس بأوصاف غير لائقة لا يقل خطورة عمن يهاجمون الدين وأهله، مشددا على ضرورة الأخذ بأيدي السفهاء الذين يتلقون مثل هذه الأوصاف ويتناقلونها فيما بينهم، وكفهم عن الظهور حتى لا يفسد الجيل وينتشر هذا الداء بين أبنائه. جهلة متحمسون عد عضو هيئة التدريس في كلية المعلمين في المدينةالمنورة وخطيب جامع الميقات الدكتور عبيد العمري إطلاق الأوصاف غير اللائقة من قبل بعض الخطباء والدعاة بأنها طريقة غير سليمة؛ فالتعميم في الحكم علامة الحيف والظلم ومجانبة الصواب فقد قال الله تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)، مشيرا إلى أن الواجب على كل من تسلم منابر الخطابة والتوجيه أن يتقي الله في عقول السامعين، وأن يقول كلاما يدين الله تعالى به موافقا للعقل والنقل، موضحا أن المصيبة تكمن في بعض الجهلة والمتحمسين الذين يأخذون هذا الكلام فتوى تصب الوقود على اللهب. وأكد على وجوب أن تكون الخطبة مؤثرة، لكن بطريقة صحيحة وبما ينفع الناس؛ لأن التأثير نوعان إيجابي وسلبي، موضحا أن هذه الطريقة سلبية لا تبني بل تهدم ولا تصلح، معتبرا أن هذا السلوك جهل فالمنابر لم تهيأ لهذا الأمر. وأوضح أن هذه الكلمات غير صحيحة لا من حيث العقل أو النقل، كما أن هذا الطرح لا يقل سوءا عمن يهاجم الدين وأهله، مطالبا في الوقت نفسه الكتاب أن يطرحوا أطروحات عقلانية. تعظيم الأشخاص وأكد الباحث والمستشار الشرعي الدكتور رضوان بن حسن الرضوان أن العقيدة الإسلامية تنص أنه لا تعظيم للأشخاص، فالعالم لو أخطأ فإننا نناصحه ونقول له أخطأت، فإن كان خطأه على الملأ يبين له أيضا على الملأ، لأن السكوت عن الخطأ خطأ. وأشار إلى أن اتهام الناس بأنهم قوم بهت لا يجوز شرعا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أقر عبد الله بن سلام حينما وصف اليهود بهذا الوصف لما رأى من كذبهم وتغييرهم للحقائق، موضحا أنه لا يجوز إطلاق هذه الصفة على المسلمين ولا يجوز أيضا أن يقال على مسلم هذا الوصف، بل يقال له أخطأت ويوضح له خطأه. ووصف هذه الاتهامات بأنها تقود إلى افتراق الأمة؛ لأن الناس ستتهم بعضها بعضا ويرد كل منهم على الآخر ويوزعون الشتائم والأوصاف غير اللائقة بينهم. وزاد الرضوان: لايفتي في القضايا التي تهم عامة الأمة إلا اللجان الرسمية والمجامع الفقهية وكبار العلماء الذين يفصلون ويحلون في هذه المسائل، لافتا إلى أن بحث هيئة كبار العلماء للحد من انتشار هذا الخطر أمر مفرح. وأكد المستشار الشرعي أن إمام المسلمين وولي الأمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يدعو إلى التقارب فيما بيننا لتحقيق الإخوة والوحدة الوطنية، فلا ينبغي أن يأتي من يشق الصف ويزعزع الناس. وأبان الرضوان أن ما سبق ذكره لا يعني أننا متحدون في آرائنا إذ إن هذا أمر طبيعي بين البشر، لكن ما لا يجوز شرعا هو التنابز بالألقاب وكيل الاتهامات. وأفاد أن تدخل الجهات الرسمية في تجريم هذا الأمر يسهم في تقليصه بشكل كبير. وعزا الرضوان وجود الفوضى في الأوساط الفكرية إلى بعض المتحمسين من الطرفين الذين ينقلون مثل هذه الأوصاف وينشرونها في الآفاق، موضحا أن هذا الأمر بداية الفتن التي لم تخرج علينا إلا بهذا الأسلوب. وبين أن كثيرا ممن تأثروا بالفكر التفكيري كانوا يأتون إلى العلماء ويلبسون عليهم بكلام باطل ليستخرجوا ما يخدمهم من الفتاوى، داعيا كل عالم وداعية أن يعرف من يسأله بدلا من الوقوع في مزالق خطيرة؛ لأن هناك أسئلة تحاك لخلق الفتنة، وأصحابها مرضى يريدون أن يزعزعوا دين الناس وأمنهم وفكرهم. الموقف الشرعي عضو هيئة التدريس في المعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في جدة الدكتور حسن بن أبكر الأزيبي قال إن الشريعة الإسلامية لها موقف من اللسان فقد قال الله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه (احفظ عليك لسانك، قال: أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به يارسول الله، قال: ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). وبين الأزيبي أن الأصل في المسلم براءة ذمته حتى يثبت ما اتهم به، أما تصنيف الناس والحكم المسبق عليهم فلا يجوز؛ فلسنا في موقع القضاء حتى نشهد على الناس، أو في الجرح والتعديل حتى نرى الأخذ أو الرد من أي شخص. وعد إطلاق هذه الأوصاف من قبيل الفوضى وعدم الانضباط في الكلمة، لافتا إلى أن الجهة الرسمية هي التي لها الأحقية في مخاطبة أي مخالف، أما أن يتكلم الناس بآرائهم فهذا لا ينبغي، مؤكدا أن وزارة الثقافة والإعلام هي التي لها الحق في مخاطبة المخالفين من الكتاب، وترد عليهم بهدف التقويم والارتقاء بالمستوى المطروح وليس التجريح. وبين أن من اتهموا بهذه الأوصاف لهم الحق في المطالبة بحقهم في المحكمة؛ لأن الشريعة الإسلامية وضعت لكل نص ميزانا. ولفت إلى أن الوسائل الرسمية متاحة لمن أراد أن يبلغ هذه الجهات عن أي مخالف وهي بدورها تستدعيه، أما أن يصبح الأمر اجتهادا فهذا ما لا يجوز. العلم عند الله أكد الأستاذ في الجامعة الإسلامية الدكتور هاني بن أحمد فقيه أنه لا ينبغي الدخول في قلوب الناس ونواياهم؛ لأن الله وحده يعلم ما في القلوب، مشيرا إلى أن الأصل أن يرد الإنسان على القول ويناقشه ويبينه بالحجة والبيان، مبتعدا عن تجريح الذات والدخول إلى القلوب دون التعرض إلى القائل. وبين أن إطلاق الألفاظ الخارجة يؤجج المجتمعات ويزيد من درجة الاحتقان والشد الاجتماعي، موضحا أن الأولى في هكذا قضايا أن تبحث علميا بالابتعاد عن اتهام النوايا؛ لأننا لسنا مكلفين بالتفتيش على الناس، والمهم الوصول إلى الحق والصواب بغض النظر عن القائل. وأشار فقيه إلى أن كثيرا من القضايا العلمية والفكرية وإن كان ظاهرها اختلافا فكريا إلا أن فيها رغبة في الانتصار للذات، وتقف وراءها خلفيات صراع شخصي وتصفية حسابات بين الفقهاء والدعاة وطلبة العلم، ونحن الخاسرين في كل الحالات. وأوضح فقيه أن كثيرا ممن يناقشون مثل هذه الحالات ينصرفون عن قضايا المجتمع المهمة والأمور التي ينتظرون مناقشتها من قبلهم، لكن بعض العلماء والدعاة ينشغلون في قضايا هامشية، فأصبحنا طوال العام نبحث في قضايا لا تهم المواطن العادي الذي ينتظر الخدمات بينما ننشغل نحن في تبادل التهم. وأكد أن التفسيق والتبديع والتصنيف والتكفير معارك صفرية لا رابح فيها، كما أن هذا لا يعني سد باب الاختلاف؛ لأنه أمر طبيعي، لكن المهم كيفية إدارة هذا الاختلاف وتوظيفه بما يخدم الصالح العام والوطن.
لم تكد تضع الحرب ضد المتطرفين أوزارها بعد أن أرهقتهم الضربات الاستباقية من جهة والفكرية من جهة أخرى، حتى لاحت في الأفق حرب جديدة لاتقل ضراوة عن حرب مكافحة الإرهاب وهي حرب محاربة التكفير والتفسيق والتبديع التي شملت بعض أجزاء من المجتمع، ولم تستثن الكتاب والصحافيين والإعلاميين، وكان آخرها ما تحدث به المشرف على موقع ديوان المسلم الشيخ الدكتور ناصر العمر حينما وصف الكتاب بالقوم البهت وشبههم باليهود. وسبق وتحدث الشيخ العمر في قضية مشابهة حول تكفير وتفسيق بعض الكتاب والإعلاميين حيث قال: «التكفير حكم شرعي خطير لا ينبغي أن يقدم عليه طالب العلم إلا بعد تريث ورجوع للعلماء، كشأن النوازل العظام، لذلك لا ينبغي الاستعجال فيه، كما يجوز إنكاره، فهو حكم شرعي مثبت في نصوص الكتاب والسنة المطهرة، ولهذا لا يخلو كتاب فقه من كتاب المرتد أو الردة على اختلاف مذاهب فقهاء الإسلام، وقد حكم بالردة على مر التاريخ من قبل العلماء على عدد من المرتدين والزنادقة، وأقام الخلفاء والحكام حد الله في بعض هؤلاء بنظر العلماء وفتواهم». ويستدرك العمر قائلا: غير أن الحكم بالكفر أو الزندقة أو الفسق أو التبديع على المعين الذي ثبت له عقد الإسلام لا بد له من توافر شروط التكفير وانتفاء موانعه، وأصول الموانع أربعة، لا يجوز أن ينسب معين إلى الكفر قبل النظر فيها، أولها: الخطأ؛ فقد لا يقصد المعني الفعل؛ لكن يقع منه خطأ، كمن سقط المصحف من يده وهو يمشي فوطئه بقدمه دون قصد منه لذلك فهذا مخطئ معذور. وثانيها: الجهل؛ فمتى ثبت جهل الفاعل للكفر أو الفسق أو القائل بهما عذر بجهله، ولم ينزل عليه الحكم، وهذا يتصور في المسائل غير القطعية المعلومة من الدين بالضرورة التي لا شبهة فيها، أما المسائل القطعية المعلومة فالأصل العلم بها، وقد لا تقبل دعوى الجهل بها، ومن ذلك كفر اليهود والنصارى، ثم قد تعرض للجاهل بالحكم شبهة؛ ولا سيما إن ضعف علمه بالشرع، وقلت بصيرته فيه، فإن عرضت الشبهة فهذا هو التأول، وهو المانع الثالث، ومنه السائغ ومنه غير السائغ، ثم اختلف العلماء في العذر به، وبالجهل إذا كان الفعل الكفري يناقض إحدى الشهادتين، فمنهم من عذر، ومنهم من لم ير العذر به. ورابع الموانع: الإكراه؛ كأن يكره على كلمة الكفر أو فعل الكفر أو الفسق، فلا ينزل على المكره الحكم. وكما أن الموانع لا بد أن تنتفي في حق المعين قبل تكفيره؛ فلا بد أن تتوافر فيه الشروط، كالعقل والبلوغ، فإن توافرت الشروط، وانتفت الموانع، لزم الحكم بكفر المعين الذي أتى الكفر، وردته وإن ادعى الإسلام. وأضاف العمر: «قد اختلف العلماء في المرتد؛ هل يستتاب أم يقتل من غير استتابة، وذهب المحققون منهم إلى وجوب استتابته، ومراجعته قبل إقامة حد الردة عليه، أما الزنديق الذي لا يقر بالكفر فإنه لا يستتاب، وكذلك المرتد الممتنع في جماعة، ولا يقدر عليه إلا بالقتال؛ فإنه يقاتل ويقصد بالقتل». وأكد العمر أن التكفير وفق الضوابط السابقة مرده إلى أهل العلم، وأما إقامة الحد فمردها إلى الحاكم، وبعض الناس يغلط؛ فيظن أن الحكم بالتكفير لا ينبغي إلا للحاكم، وهذا خلط بين الحكم بالكفر والردة وبين إقامة الحد عليه؛ فهذا الأخير هو الذي يرد أمر إنفاذه إلى ولي الأمر، أما الحكم الشرعي فمرده إلى العلماء.
الكاتب الباحث الدكتور عبد الرحمن الحبيب أجمل حديثه عن القضية بقوله: «على أرض الواقع حاليا لا توجد آلية محددة ومحكمة للتكفير أو التفسيق أو التبديع، والأساس لعدم وجود آلية هو هذا التحول الحواري الذي نشهده في الساحة الفكرية، هذا يعني أن الأساس أصبح وفقا للاجتهاد الفردي، وعندما تكثر الاجتهادات الفردية بطريقة عشوائية يتطلب الأمر ضبطا منهجيا أو تشريعيا جديدا؛ لأن الضبط السابق أو القديم أصبح غير فعال واقعيا، وتجاوزته المرحلة الإصلاحية، التي تتطلب إصلاح الآلية نفسها؛ لكن أصحاب النظرة القديمة سيصرون على اتباع ما درجوا عليه، والعكس صحيح لأصحاب النظرة الجديدة. ويتابع الدكتور عبد الرحمن قائلا: بطبيعة الحال هناك تعارض مباشر بين حرية الرأي والتسلط في التفكير عبر التكفير، والتعارض يزداد حدة في هذه المرحلة المشحونة بالاستقطابات الحادة، وهذا يتطلب تحديدا لكلا المفهومين، مفهوم حرية الرأي والتعبير والمعتقد؛ ومفهوم الرقابة على الأفكار وإطلاق الأحكام على النص المكتوب أو على الكاتب، ويحتاج للوعي بمفاهيم النقد وما يشمله من تصنيف للآخرين أو أفكارهم، فعلى سبيل المثال؛ إذا كان النقد يتضمن إطلاق أحكام وتصنيف، فإن هذه الأحكام النقدية ينبغي ألا تكون خارج إطار الرأي النقدي، حتى وإن كان حادا؛ لأن المهم ألا تدخل الأحكام النقدية في إطار إطلاق التهم، وتحديد العقوبات، فتلك مهمة جهات أخرى كلجان الرقابة، أو المحاكم القضائية، أو غيرها من الجهات النظامية الرسمية؛ فالأحكام النقدية مختلفة تماما عن الأحكام القضائية؛ فمثلا ليس من حق فرد إطلاق تهم على كاتب؛ كالتخوين، أو العمالة لجهات أجنبية، فتلك مهمة جهات أمنية لها دورها في هذا المجال، وليس من حق فرد إطلاق حكم بالتكفير مع تحديد عقوبة بتفاصيلها، وكأنه يرأس محكمة فيها ادعاء ومتهم وشهود ومحامون... إلخ، هذا خلاف فاضح في فهم النقد، أو في طريقة رفض آراء الآخرين. ويخلص الدكتور الحبيب إلى القول مختتما: القاعدة أن الأصل في المعاملات الإباحة، والأصل في الحقوق أن حرية التعبير والرأي حق للجميع؛ لكن الاستثناء أن هذا الحق ينتفي إذا اعتدى على حقوق الآخرين، فليس من حقي أن أتهم كاتبا بالرشوة أو الخيانة مثلا، هذا تشهير وقذف تعاقب عليه كل الأنظمة في كل الدول والمجتمعات المستقرة، والأخطر حينما أحدد عقوبة لهذا الكاتب كالقتل، هذا تأصيل للإرهاب، وتشجيع على الفوضى والاحتراب الداخلي، وفي كل الأحوال نحن بحاجة لوضع ضوابط جديدة تناسب مرحلتنا الجديدة التي نعيشها في ظل احترام حقوق الإنسان، وتلك لا توضع فجأة؛ بل تحتاج للتدارس والتباحث بين المتخصصين والمعنيين بالأمر.