بات شغلنا الشاغل في السنوات الأخيرة، الحديث عن الصراعات الفكرية وأهمية الحوار لحل الخلافات وتعلم التسامح وتقبل الرأي الآخر للتعايش مع الجميع بسلام. كما صرنا نحبط مرة بعد أخرى كلما تصاعدت أمام سمعنا وبصرنا أزمة فكرية جديدة تؤكد استمرار أسلوب التعصب في حياتنا وإعلان العجز عن تطبيق الحلول السلمية في حل الخلافات. وأمر كهذا لا يمكنني، بحكم التخصص، سوى أن أنظر إليه من المنظور التربوي، فنحن في تربيتنا لأولادنا نتوارث ثقافة الحل الواحد القسري للخلافات، نغرسها فيهم جيلا بعد جيل، فغالبا عندما ينشب النزاع بين الصغار داخل الأسرة، يبادر الأهل إلى التدخل لفض المعركة، وهو في معظم المرات، تدخل يتمثل فيه الحل التقليدي للنزاع الذي يقوم على الانتصار لطرف على حسب الطرف الآخر. وعيب هذا الحل ليس أنه يورث الغضب والكراهية والبغض لدى الطرف المهزوم تجاه الطرف المنتصر فحسب، وإنما أسوأ من ذلك هو يلقن الصغار أسلوبا خاطئا في حل الخلافات، هو يرسخ في تصورهم أن حل النزاع لا يكون إلا بانتصار طرف على الآخر. من المهارات التربوية الأساسية، أن يعلم الآباء أولادهم مواجهة الخلافات بينهم بأسلوب التفاوض بدلا من الأسلوب المغلق الذي لا يعرف سوى حل واحد ضيق، وهذا يعني أن يتعلم الأولاد كيف ينظرون إلى وجهة نظر كل منهم في المسألة المختلف حولها، وأن يقترح كل منهم ما يراه مناسبا لحل الخلاف، فيتعلمون كيف تكون التسويات الوسطية وما تتطلبه من تنازلات للوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف. وتطبيق هذا الأسلوب في حل الخلافات الناشبة بين الصغار يعلمهم أمورا كثيرة ذات قيمة في حياتهم، في مقدمتها اعتماد المنطق في حل الخلافات حيث يكون الانتباه منصرفا نحو مناقشة الموضوع المختلف حوله والبحث عن حل ملائم له، بدلا من الانفعال والاندفاع إلى مهاجمة الآخر واتهامه بالتعدي والوقوع في الخطأ. كما أن هذا الأسلوب يعلم الأولاد أن يكون موضع اهتمامهم وقت الخلاف، البحث عن مخرج من النزاع الناشب بينهم بطريقة ترضي الجميع قدر الإمكان، وهو ما يقتضي منهم الاعتراف بالخطأ، والتنازل عن بعض الرغبات، واحترام مشاعر الطرف الآخر . وشتان بين هذا الأسلوب والأسلوب التقليدي المتبع في حل النزاع، الذي يبدأ بالانفعال وكيل الاتهامات واللوم، لينتهي بتغليب طرف على الآخر. ولعل الآباء حين ينجحون في غرس الإيمان في صدور أولادهم بأن الخلافات لا يقتصر حلها على طريقة واحدة فقط تتضمن الكسب لطرف والخسارة للطرف الآخر، وإنما يمكن حلها بطريقة التسوية التي لا يكون فيها خسارة ولا كسب، بل حل وسطي يتوفر فيه العدل ويرضي الطرفين، وأن عليهم أن يجتهدوا في التوصل إليه، لعلهم آنذاك يطمئنون إلى أنهم ينشؤون جيلا قادما، له فكر مختلف وثقافة جديدة، همها البحث عن الأفضل وليس لمن يكون النصر.