شرع الله القصاص كأحد الحدود الثابتة في الشريعة الإسلامية التي يقتص بها من القاتل حماية للنفس البشرية من الاعتداء عليها، خصوصا أن الشرع تكفل بحفظ النفس وصيانتها، وإذا كان تنفيذ أحكام القصاص بالكبار أمر لا حرج في تنفيذه في أي وقت عند إقامة الحجة واستيفاء القضية ووجود الحجج الدامغة ونطق القاضي بالحكم، إلا أنه في حالات الفتيان الصغار تبقى القضية معلقة حول تنفيذ الحكم، فهناك من ذهب إلى أن تنفيذ الحكم يجب أن يكون عند البلوغ مباشرة، أما الفئة الأخرى فقد حددت سنا معينا لتنفيذ الحكم هو 18 عاما وفق اتفاقيات حقوق الطفل، وليست قضية الحدث الذي نفذ فيه الحكم قبل سنوات في جازان ببعيدة عنا، خصوصا أن الحكم نفذ والحدث في 13 من عمره، مما آثار غضب الجماعات الحقوقية في العالم، والتي اعتبرته انتهاكا لحقوق الطفل في العالم، مما جعل أسهم النقد تتوجه للسلك القضائي والشرعي حينها.وفي الآونة الأخيرة، شهدت المملكة حراكا حقوقيا واسعا لمنع خرق الاتفاقيات الحقوقية العالمية التي تتماشى مع الشريعة الإسلامية وصادقت عليها المملكة، وكان آخرها الحملة التي أطلقتها الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان تحت شعار «كفى» والتي تستهدف وقف العنف ضد الأطفال بكافة أشكاله ومن ضمنه التقيد بوضع عمر معين عند تنفيذ أحكام الإعدام. «عكاظ» فتحت ملف تنفيذ أحكام القصاص بالفتيان وضوابطه، وهل ينفذ بسن معينة أم أنه يختلف باختلاف بلوغ الأطفال ؟ ومن المسؤول عن تحديد التنفيذ ؟ والأثر النفسي والاجتماعي على الطفل عند تنفيذ الحكم عليه ؟ وأبرز الحلول الملائمة لعدم تكرار حادثة طفل جازان ؟ وهل يمكن استبدال حكم القصاص على الفتيان بأحكام أخرى تلائم أعمارهم؟ وناقشت هذه القضية مع جملة من الشرعيين والقضاة والمختصين في علم النفس والاجتماع وحقوق الإنسان في سياق التحقيق التالي: أوضح مدير مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة الدكتور عياض بن نامي السلمي، أن هناك خلافا فقهيا حول تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية بالنسبة لفئة الفتيان، مشيرا إلى أن الشريعة ترى أن تطبيق الحد مرهون بالبلوغ والتي لها علامات معروفة ومعلومة منها الاحتلام وظهور الشعر وعلامات أخرى تدل على اكتمال العقل وبلوغ سن التكليف، واستدرك : «من العلماء من يرون تحديد سن معين للبلوغ مثل الإمام أبو حنيفة». واعتبر السلمي أنه من الصعوبة تعميم هذا الحكم على كل البلاد والعباد مستدلا على ذلك باختلاف سن البلوغ بين البلاد الحارة والباردة، وخلص السلمي إلى «أنه يمكن للعلماء تحديد سن معينة للبلوغ يمكن عندها تنفيذ الأحكام شريطة وجود دراسة علمية تؤكد أن جميع الشباب يبلغون قبل سن الثامنة عشرة»، وعلل كلامه بأن هناك اختلافا في تحديد سن التكليف والإمام أحمد بن حنبل ذكر ذلك، فالرسول مثلا أجاز لابن عمر الدخول للجهاد في سن معينة. وبين السلمي إلى أن من مقاصد الشريعة التعميم عندما دراسة الموضوع بشكل عام، مستدركا «لكن تبقى بعض الإشكاليات فحد السرقة بخلاف حد القتل مثلا وبالتالي نوع الجريمة يتوقف عليها أيضا سن العقاب». مفيدا أن كل بلد يحدد ما يناسبه في هذه المسائل، فبعض البلاد تحدد سن البلوغ في الخامسة عشرة، وأخرى في الثامنة عشرة، لذلك لا يمكننا تحديد سن البلوغ عند كل العالم. وشدد السلمي على أن القضية يمكن أن تحدد عندما يصدر تقنين للأحكام ويختار ولي الأمر الأفضل، وهل هي بمجرد البلوغ؟! أم بتحديد سن لذلك؟! مؤكدا على أن القضية بحاجة لفتوى جماعية يشارك فيها مختصون في علم النفس وعلم الاجتماع ولجنة الطفولة لتحديد الأمر بشكل نهائي، مبينا أن النصوص الواردة في تحديد سن البلوغ، ليست قطعية وقابلة للاجتهاد، ولابد أن تستند على دراسات عينية وعلمية وفقهية. علامات البلوغ ورفض القاضي في محكمة التمييز في الرياض الدكتور إبراهيم الخضيري القول بأن تنفيذ الأحكام في الفتيان في المملكة دون سن الثامنة عشرة، موضحا أن التنفيذ لا يجري قبل الثامنة عشرة، لأن العبرة ليست في التنفيذ وإنما في صدور الحكم، مشيرا إلى أن التنفيذ هو إتمام للحكم والذي يتنفذ بعد سن الثامنة عشرة. نافيا أن يكون تنفيذ حكم القصاص بطفل جازان قد تم قبل بلوغه قائلا: «هذا ليس بصحيح، لأن هناك علامات تؤكد بلوغ الفتى، لأن بلوغ الشاب في المناطق الحارة أسرع من المناطق الباردة، وهناك علامات أخرى على بلوغه وقت الجناية». وشدد الخضيري على أن القضاء في المملكة يحتاط في قضايا البلوغ قبل تنفيذ الأحكام بعلامات عديدة، لتأكيد البلوغ فالتنفيذ لا يتم في الغالب إلا بعد سن الثامنة عشر ة من عمره. وأوضح الخضيري أن هناك أربع علامات لبلوغ الأنثى، وثلاث علامات لبلوغ الرجل، مفيدا أن هناك اختلافا بين العلماء في قضايا البلوغ، فالشافعية والحنفية ترى أن البلوغ في سن الثامنة عشرة، والمالكية والحنابلة في الخامسة عشرة، وهو الأرجح. وأكد الدكتور إبراهيم أن حكم القصاص حد شرعي لا يمكن تركه أو إهماله فالقاتل يقتل «ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب»، مبينا أن لهذا الحكم ضوابط شرعية تراعى في محاكم المملكة من خلال حرصها على التحري ووضع الضمانات القضائية، موضحا أن هذه القضية تمر على 13 قاضيا من درجات متفاوتة، إضافة لوجود لجان شرعية وطبية تساعد القاضي في التحقق من بلوغ الفتى وقت الجناية، مشددا على أن الضمانات تجري بشكل يتلائم مع رعاية حقوق الطفل والإنسان في العالم. ورفض الخضيري استبدال حكم القصاص للفتيان بأحكام أخرى، مستدلا على ذلك بأن حفظ النفس البشرية وصيانتها وإعطائها حق الحياة، هي أحد القواعد الشرعية التي جاء بها الإسلام، الذي حرم القتل وإقامة حد القتل على القاتل، واستدرك الخضيري «لكن في نفس الوقت، هناك ضمانات حقيقية لا توجد في كل أمم الأرض، إذا ثبتت على الجاني فإنه ينفذ فيه الحكم الشرعي دون تغاض أو تهاون». الأحكام البديلة لكن القاضي في المحكمة العامة في جدة عبد الإله العروان، مال نحو تنفيذ الأحكام البديلة كبديل، مبينا أن «الأحكام على الأحداث تختلف حسب البيئة والحدث نفسه وظروف الواقعة، لكنني أميل إلى الأحكام البديلة»، وأضاف: «المشكلة التي تواجهنا في قضية الأحكام البديلة، من هي الجهات المستعدة لقبول عقوبة الأحكام البديلة، وما هي الآلية التي نضمن معها تنفيذ الأحكام، فالأحكام البديلة ليس لها حتى الآن آلية معينة وواضحة لذلك نطالب بأن تكون هناك آلية واضحة في ما يتعلق بالأحكام البديلة». وتساءل الشيخ العروان حول اتفاقية حقوق الطفل «ألم تنص الاتفاقية على أن يحاكم الحدث ؟»، وأجاب: «نحن نراعي ظروف القضية التي يكون الحدث طرفا فيها، ومستوى معيشة الحدث، وعددا من الظروف المحيط بالقضية»، وقال: «الحكم على الأحداث تختلف عن الأحكام على غيره». حقوق الإنسان المشرف على فرع الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في منطقة مكةالمكرمة الدكتور حسين الشريف، أوضح أن الإشكالية تكمن في تحديد عمر الحدث، وقال: «نطالب بأن يكون هناك نظام واضح وصريح يحدد عمر الحدث»، وأضاف: «يجب أن تكون العقوبات مراعية لظروف الحدث وأن يكون القصد منها التأديب والإصلاح». وبعث الشريف عددا من الرسائل إلى الجهات التشريعية والقضائية وجهات الضبط ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، مطالبا فيه بضرورة تفهم الخصائص النمائية لمرحلة الشباب، وقال: «على المدارس والأندية الرياضية وجمعية مراكز الأحياء تفهم احتياجات الشباب، وما يمرون فيه من تغيرات فسيولوجية، وأن يتوسعوا في أنشطتهم وأنديتهم لاستيعاب الشباب وتوظيف طاقاتهم بشكل إيجابي، كما أنه على جهات الضبط عقد دورات للتعامل النفسي والاجتماعي مع هذه الفئة»، وتابع «الجهات التشريعية يجب أن تراعي أهمية العقوبات المناطة بالأحداث في الأنظمة المستقبلية وتحديد الآليات التي يستفيد منها فضيلة القضاة، ومنها العقوبات البديلة». ولفت الشريف إلى أن على الأسرة أن تتعرف على الخصائص النمائية للشباب وتعمل على مراعاة هذه المرحلة وما تتطلبه من نوعية تعامل، داعيا الشباب إلى البعد عن أقران السوء واللجوء إلى الجهات التي تعزز طاقاتهم إيجابيا، وأبدى الشريف استعداد الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، للتعاون مع الجميع بما فيهم الشباب لتعزيز طاقاتهم إيجابيا بما يخدم المجتمع.
توصيات : خلصت آراء المشاركين في القضية إلى: 1 دراسة القضية من القضاة بمشاركين نفسيين واجتماعيين وحقوقيين قبل إصدار الحكم . 2 إخضاع الفتى لتأهيل نفسي واجتماعي بغية الإصلاح . 3 دراسة القضية من قبل هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية لوضع رؤية موحدة تجاه هذه المسألة . 4 وضع نظام واضح وصريح لتحديد عمر الحدث من قبل الشرعيين والحقوقيين والقانونيين والشوريين . 5 إعادة النظر في قضية تنفيذ أحكام الإعدام بحق الأحداث . 6 الاستعانة بالأحكام البديلة للتعامل مع قضايا الأحداث . 7 التدرج بالجزاءات حسب سن الحدث.