من عمق البادية، إلى شرف العسكرية، صعوداً إلى شرفات الحرف.. رحلة مليئة بالتحديات والصعاب قطعها المقدم متقاعد، الأستاذ عاتق بن غيث البلادي رحمه الله .. عاش حياة مفعمة بالجدية والانضباط، أسسها بشظف البادية، وقسوة الطبيعة، ونظمها وشذبها بالانضباط العسكري، ثم هيأها للانطلاق الفكري والمشاركة الثقافية بالدرس الجاد الذي بدأه في مدارس مكةالمكرمة، وصقله في حلقات الحرم المكي الشريف، ونهل بعد ذلك مما أفاء الله عليه من أمهات الكتب التي حرص على اقتنائها ودراستها بعمق حتى أفرز كل ذلك شهداً صافياً، ورطباً جنياً، هززنا جذعه فتساقط علينا من مؤلفاته القيمة. سعدت «الاثنينية» بتكريم الشيخ عاتق بن غيث البلادي بتاريخ 19/5/1412ه الموافق 25/11/1991م.. إسهاماً في توثيق مسيرته الخيرة، وتقديراً لجهوده الخيرة التي كللها بتأسيس «دار مكة للنشر والتوزيع» التي عنيت أولا بنشر إنتاجه العلمي والأدبي، فنشر من خلالها أكثر من عشرين عنواناً منها: أربعة معاجم (معجم معالم الحجاز في عشرة أجزاء، ومعجم قبائل الحجاز في ثلاثة أجزاء، ومعجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، ومعجم الكلمات العجمية والغريبة في التاريخ الإسلامي).. وهذه شكيمة وعزيمة لا يسايرها إلا أولو العزم من الرجال، فالتأليف المعجمي من أصعب ما يتناوله الباحث، فكيف به يتصدى لأربعة معاجم!!! وقد كان رحمه الله حفياً بالأدب الشعبي، وأخلاق الرجال.. فنهض بتأليف عدة كتب منها: أمثال الشعر الشعبي، الأدب الشعبي في الحجاز وأخلاق البدو. إن هذا المنجز العلمي الضخم ما كان له أن يضرب جذوره في طويلب علم لم يتجاوز مراحل التعليم الأولى لولا جثوه على الركب في الحرم المكي ينهل من علمائه الأجلاء، كل واحد منهم كان جامعة قائمة بذاتها.. وكلما جالس الطالب أكثر من عالم كان في الواقع يدرس في أكثر من جامعة.. فكم خسر العالم الإسلامي من انحسار ذلك المد العلمي الهائل الذي لم يكن في عهده المشرق بنور العلم تنطع، ولا تطرف، ولا إرهاب، بل معين صاف لكل من آنس في نفسه الكفاءة، وجاءه واهبا نفسه للعلم من مختلف أنحاء العالم.. وردوه عطاشاً خفافاً، زغب الحواصل، ثم صدروا عنه مثقلين بالعلم والعمل، فكانوا منارات تهدي السارين في دياجير الظلام، ووفود سلام، ومحبة، وتواضع، وخلق رفيع، أينما حلوا في ديارهم، أو بين مريديهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته، وينزل عليه شآبيب مغفرته، ويجعله مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.