فجعنا قبل أيام قليلة ، بالحادث الجلل ، في وفاة العالِم العَلم ، والمؤرخ الثبت ، والباحث الموسوعي الشيخ الدكتور ( عاتق بن غيث البلادي ) ، الذي وافته منيته في مكةالمكرمة ، العاصمة المقدسة ، التي تربى فيها منذ الصغر ، فأحبها وأحبته ، وأوقف جل جهده ووقته ، في بحث تاريخها ، وبعث مكنوزها ، وتوثيق معالمها ، وتقديم أعلامها ، فحوت مكتبته البحثية ، معاجم وموسوعات عن مكة وحدها ، أو تنطلق منها لغيرها ، فمما كتب وألف في هذا المجال : ( معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ) ، فمعظم مفردات هذا المعجم المتفرد ، هي من مكةالمكرمة . ثم كتابه : ( فضائل مكة وحرمة البيت العتيق ) ، وكتابه : ( معالم مكة التاريخية والأثرية ) ، وكتابه : ( بين مكة وحضرموت ) ، وكتابه : ( بين مكة واليمن ) ، وكتابه : ( أودية مكة ) ، وكتابه : ( هديل الحمام في تاريخ البلد الحرام ) ، وكتابه : ( بين مكة وبرك الغماد ) ، ثم كتابه البديع : ( نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين ) في جزءين كبيرين ، الذي هو عبارة عن تراجم لمؤرخي مكة وجغرافييها على مر العصور ، هذا العمل الذي لم يُسبق إليه من قبل . من أجل هذا ، راحت بعض الأقلام التي رثته بعد وفاته ، تصفه بمؤرخ مكة ، وهو كذلك كما وصفته رحمه الله ، مؤرخ مكة ومجغرفها ، ومؤرخ الحجاز ومجغرفها ، ومؤرخ الجزيرة العربية ومجغرفها ، بل هو فوق ذلك ؛ مؤرخ ومجغرف ونسابة وأديب ولغوي ، لمكةالمكرمة ، وللجزيرة العربية ، وللبلاد السعودية كافة ، فله إلى جانب معجميه الكبيرين : ( معجم معالم الحجاز ) ، و( معجم قبائل الحجاز ) ، كتب كثيرة ، منها ما هو في الشعر فصيحه ونبطه ، مثل كتابه : ( أمثال الشعر العربي ) ، وكتابه : ( الأدب الشعبي في الحجاز ) ، وكذلك : ( طرائف وأمثال شعبية ) ، و( أخلاق البدو ) ، و( معجم الكلمات العجمية والغربية في التاريخ الإسلامي ) ، إلى غير ذلك مما يناهز الخمسين كتاباً ، تركها البلادي من بعده ، شاهدة على مثابرة ومجاهدة ، لرجل وهب حياته للعلم ، وأعطى جهده للبحث ، وثابر وصابر ، حتى أثرى المكتبة العربية ، بهذا الكم الهائل من الدراسات الجادة ، والبحوث الثبتة . ثم إن الفقيد رحمه الله ، تميز وتفرد بأدب الرحلات ، فكان شغوفاً بالوقوف على المعالم الجغرافية ، والأمكنة التاريخية والأثرية ، والكتابة عنها بعين من رأى لا عين من سمع ، فقد جاب الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها ، ومن شرقها إلى غربها ، وقدم للمكتبة العربية خلاصة مشاهداته ومرئياته ومساجلاته ومباحثاته ، في عدد من كتب الرحلات التي تذكرنا بالرحالة القدامى ورحلاتهم الشهيرة في التاريخ العربي ، خاصة ما كان منها إلى الحجاز ومكة والمدينة ، مثل ابن بطوطة ، وابن جبير ، والبتنوني ، وغيرهم ، فقد ارتحل إلى اليمن انطلاقاً من مكة ، وقدم كتابه : ( بين مكة واليمن ) ، وارتحل من مكة إلى حضرموت فجاء كتابه : ( بين مكة وحضرموت ) ، وارتحل منها إلى نجد فقدم : ( الرحلة النجدية ) ، وآخر : ( على ربى نجد ) ، وتتبع الرحلة النبوية إلى يثرب ، فجاء كتابه : ( على طريق الهجرة ) . ولعل الدارسين لآثار الشيخ البلادي رحمه الله بعد وفاته ، يلحظون حرصه على أن تكون مكة ، هي محور أعماله البحثية التاريخية والجغرافية والأدبية أيضاً ، فمكة هي ( قلب الحجاز ) ، كما سمى أحد كتبه بذلك ، وهي منطلق رحلاته البحثية إلى أصقاع وبقاع في الجزيرة العربية كافة . رحم الله أبا غيث ، الصديق الصادق ، والأستاذ الأديب . إنا لم نفق بعد من صدمة فقد مؤرخ وعالم كبير هو الدكتور ( ناصر الحارثي ) رحمه الله ، حتى صدمنا بفقد علم بارز آخر ، وعالم جليل هو الشيخ الدكتور ( عاتق بين غيث البلادي ) ، الذي أسميته قبل سنوات مضت في مقال لي عنه ب ( ابن بطوطة الجزيرة العربية ) ، لأنه صاحب رحلات بحثية شهيرة ، وصاحب موسوعات تاريخية رصينة ، وصاحب معاجم جغرافية كبيرة . والعالمان الجليلان : ( البلادي والحارثي ) ، بينهما مشتركات كثيرة وجميلة ، فهما رغم أنهما من بادية مكةوالطائف ، إلا أنهما سكنا مكة ، وهما في طليعة الذين اهتموا بمكة ، فكتبوا في تاريخها ، وفي معالمها وأعلامها وأدبها وحياتها . رحمهما الله رحمة واسعة . لقد عرفت الشيخ البلادي رحمه الله ، منذ زمن طويل وأنا على مقاعد الدراسة في المرحلة المتوسطة ، فقد كنت مغرماً بقراءة الكتب التاريخية والبلدانية ، فوقعت مرة على معجمه الكبير : ( معجم معالم الحجاز ) في عشرة مجلدات ، ثم قرأت فيما بعد معجمه : ( معجم قبائل الحجاز ) ، وكنت كلما أردت الانتقال إلى موقع للكتابة عنه ، أعود قبل ذلك إلى البلادي ومعجميه الرصينين ، وأشير إليهما فيما أكتب من مقالات أو بحوث كانت تنشر لي في صحيفة الندوة ، وفي مجلة المنهل . ثم إني مكثت على معرفة بهذا الباحث الكبير ، من خلال كتبه فقط ، إلى ما قبل ثلاثين عاماً تقريباً ، عندما قررت البحث عنه ولقاءه وجهاً لوجه ، فقد وصلت إلى البيبان في مكة ، واتجهت إلى داره العامرة هناك ، فرأيت بداية عند الباب ، سيارة جيب خاصة بالرحلات البرية ، وفي صندوقها الخلفي كافة مستلزمات التنقل البرية ، من فُرش وأغطية وأدوات طبخ ، وأدوات مساحية وغيرها ، ولما اجتمعت بالشيخ في مكتبته التي يقضي فيها معظم وقته ، ويستقبل فيها ضيوفه ، لأنهم غالباً من الباحثين أمثاله ، شعرت أني أعرف هذا الرجل منذ سنوات طويلة ، وفعلاً كنت أعرفه من خلال أدبه وإنتاجه الغزير ، وتقربت إليه أكثر ، لأني لمست فيه روح الأبوة الحانية ، وطيبة النفس ، والسماحة والتواضع ، والأدب الجم الذي هو طبع فيه ، وليس تطبعاً أو تصنعاً منه . درج رحمه الله ، على الاصطياف في الطائف المأنوس ، فقد اختار السكن في لُقيم – وادي القيم حالياً – وهو الحد الذي يمثل مدخل الطائف من شماليه ، والذي دخل منه الأصمعي إلى الطائف فقال : ( وصلنا الطائف ، فكأني كنت أبشَّر ، وكأن قلبي ينضح بالسرور ، ولا أجد لذلك سبباً ، إلا انفساح حدها ، وطيب نسمتها ) . وكأن البلادي كان يتقفى آثار الأصمعي على ما يبدو ، في اختياره لهذه البقعة الجميلة من الطائف ، فما زرته يوماً في داره بالقيم ، إلا وأجده يجلس في الهواء الطلق ، قرب الباب الخارجي . وكنت أحرص على عيادته وزيارته سواء في الطائف أو في مكة ، وهو كذلك أكرمني بأكثر من زيارة لداري ومكتبتي في حي المثناة ، وقبل وفاته بأيام خمسة ، هاتفته أدعوه لزيارة النادي الأدبي ، والتحدث فيه من خلال منبر برنامج الخيمة العكاظية ، فأفهمني أنه يعاني من مرض عضال ، وأنه سوف يلبي رغبتي ورغبة أعضاء مجلس الإدارة ، إذا وصل الطائف في مطلع الصيف . رحمك الله يا أبا غيث .. أتذكّرك الآن جيداً ، وأتذكر لطفك في الحديث ، وسؤالك لي عن محبيك وأصدقائك بالطائف .. أتذكر عزة نفسك وإبائك ، وأتذكر نظافة يدك ولسانك ، وأتذكر صديقك الشاعر المكي الكبير حسين سرحان رحمه الله ، الذي قال لنا من قبل ، وهو في مكة غير بعيد عنك : تذكّر الناسَ .. أين الناس .. أينهم ؟ مضوا مع الموت .. فوق المركب الخشنِ كم تحت الثرى من سيّدٍ لبقٍ ومن مسود .. ومن غِرٍّ .. ومن فطن أقول لك في نهاية المطاف ؛ أيها السيد اللبق : ( عاتق بين غيث البلادي ) ، بعد أن ودعتك صوتياً في الهاتف ، وكنت أظن أنا سوف نلتقي في الطائف كما وعدتني : لأودِّعنَّك .. ثم تدمع مقلتي إن الدموع هي الوداع الثاني . * رئيس نادي الطائف الأدبي