وقف سعود آل شايع القحطاني - رحمه الله - متأملا صور وملابس ابنه يوسف الذي لم يتجاوز السنوات العشر، بعد أن اختطفته والدته وفاء الشهري وهربت به إلى اليمن، لكن الموت خطف سعود في حادث مروري قبل أن تقر عيناه بمشاهدة ابنه. شكلت قضية هروب (وفاء الشهري) التي تكنى ب(أم هاجز الأزدي) هاجسا كبيرا لدى المهتمين والباحثين في قضايا التطرف والإرهاب؛ كونها تعتبر أول امرأة سعودية يتحول إيمانها بالفكر الضال المتطرف من الفكر إلى الفعل، حينما باغتت أسرتها واختطفت ابنها يوسف وابنتها وصايف من زوجيها السابقين وهربت بهما إلى اليمن لتنضم لزوجها سعيد الشهري؛ متأثرة بفكره وبتوجهات بعض من إخوتها وافراد أسرته، تزامن هروب أم يوسف مع إعلان التنظيمات المتطرفة في العالم؛ ومنها القاعدة، استخدام النساء اللواتي يعرفن بالأرامل السوداء في عملياتهم. هذه القصة فتحت الباب على مصراعيه عن تساؤلات عديدة تطرح عن مدى وجود تطرف نسائي في المجتمعات الإسلامية والعربية عموما والخليجية والسعودية خصوصا، وعن قدرة التنظيمات الإرهابية على تجنيد النساء في عمليات إرهابية غير محسوبة العواقب، فالاهتمام بالتطرف الفكري النسائي ضعيف ولا نرى له أثرا في مجتمعنا، خصوصا أننا مجتمع ذكوري لا يخالط المرأة كثيرا، ولا يبحث في ما يدور في جلساتهم الخاصة أو محاضراتهم أو دروسهم، ما عدا دورا بسيطا للجان المناصحة التي تنتدب في بعض الأحيان امراة أو امرأتين لعمل دروس توعوية للتحذير من الفكر الضال في المدارس والجامعات والملتقيات، ولا تشكل مثل هذه الخطوات عملية حصانة قوية، فالاهتمام يجب أن يكون أكبر، خصوصا في غياب الدراسات والأبحاث الميدانية التي تقيس هذه المشكلة المسكوت عنها، ويبقى الإعلام والدراما وسيلة قوية في التنبيه لهذه المشكلة قبل أن تكبر وتتعاظم، ولعل أولى هذه الخطوات المسلسل الدرامي الجديد الذي يصور حاليا بعنوان (وما ملكت أيمانكم) ، والذي يعتبر أول عمل درامي عربي يتحدث عن التطرف النسائي بجميع أشكاله، إلا أن الحكم على مدى فائدته وتأثيره مرهون بمشاهدته، فبعض الأعمال تسوق للتطرف أكثر مما تحاربها وتخلق ردات فعل سلبية مساوية لها بالمقدار ومعاكسة لها بالاتجاه. «عكاظ» فتحت ملف القضية وتساءلت عن كون التطرف النسائي ظاهرة في مجتمعنا؟ وأسباب نشوئه وإمكان تكاثره؟ ولماذ لا يفصح عنه؟ ومدى قدرته على التحول من فكر إلى فعل؟ وكيفية تحصين المجتمع منه؟ وهل برامج المناصحة النسائية كافية؟ ومدى قدرة المعالجات الدرامية والإعلامية في الحد من انتشاره؟ وناقشت هذه القضية مع نخبة من المختصين والمهتمين في سياق التحقيق التالي: حيث رفض المنسق العلمي للجان المناصحة في وزارة الداخلية الدكتور سعيد الوادعي وصف التطرف النسائي بالظاهرة، مقرا بوجوده في المجتمع، لكن دون معرفة نسبته وتأثيره، وبين الوادعي أن خطورة التطرف النسائي يتعاظم لدى الأم داخل بيتها ومع أبنائها ولدى المدرسة والمديرة والأكاديمية، واعترف الوادعي بصعوبة كشف التطرف النسائي بسبب صعوبة الوصول إلى المجتمع النسائي والتواصل معهم، وأشار الوادعي إلى أن كشف التطرف لدى الرجال أكثر سهولة، كما أن القضاء عليه يمكن في حينها بالمناصحة والحوار وهو ما نجحت به لجان المناصحة في وزارة الداخلية؛ عندما أعادت الكثيرين من أصحاب الفكر المنحرف إلى جادة الصواب، وأفاد الوداعي أن لجان المناصحة أهلت بعض النساء لعمل برامج تحصينية للنساء خلال جولاتها في بعض المناطق، مقرا بوجود أنشطة نسائية للجان المناصحة لكنها محدودة وقليلة قياسا بالرجالية، وعلل ذلك بصعوبة التواصل مع النساء وإمكانية تفريغ نساء مؤهلات لذلك، مفيدا أن هناك امراتين ستنضمان للجان المناصحة في جولاتهم المقبلة. ثلاثة أنواع واتفق عميد كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز لدراسات الأمن الفكري في جامعة الملك عبد العزيز الدكتور خالد الدريس مع رأي الوادعي بأن التطرف النسائي لا يشكل ظاهرة في المجتمع، وزاد: «ولا أظنه في المستقبل المنظور سيشكل ظاهرة مقلقة من حيث الكم». ورفض الدريس قصر التطرف النسائي علىنوع واحد، موضحا أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ أولها: تطرف يتسم بالغلو الديني، والثاني: تطرف يتسم بالانسلاخ من الهوية الإسلامية والوطنية، والنوع الثالث مصدره الجمود الفكري والتعصب المذهبي الطائفي أو العنصرية القبلية والقومية والمناطقية. مشيرا إلى أن هذه الأنواع يشترك فيها الرجال والنساء سواسية، واستدرك الدريس بقوله: «لكن التطرف بمعنى اعتناق أفكار التنظيمات الإرهابية كتنظيم القاعدة فهو في تقديري موجود، لكنه لم يشكل ظاهرة حتى الآن»، واعتبر الدريس أن النوع الأخير من التطرف وإن كان قليلا فإن الأماكن المرشحة لنموه على سبيل الاحتمال الأقوى وليس بالضرورة أنه يوجد بالتأكيد في أسر الموقوفين والمطلوبين أمنيا في قضايا الإرهاب أو الذين قتلوا في عمليات إرهابية، موضحا أن زوجات المتطرفين أوقريباتهم كأخواتهم وبناتهم لديهم نوع من التعاطف مع الأفكار، يسنده شعور بالكراهية واحتقان المشاعر، مستدركا «أن هذا الاحتمال تسنده شواهد ولكنه ليسن بالضرورة في كل أسرة بالضرورة». ولفت الدريس إلى أن تطورات تنظيم القاعدة الأخيرة بعد توالي الهزائم عليه داخل المملكة وبعض المناطق الإقليمية الأخرى، يعطي دلالة على لجوئه لتجنيد تلك الفئة من النساء في أعمال انتحارية، مدللا ذلك بمكانة المرأة في المجتمع السعودي من حيث الستر والحشمة وهي وسيلة تساعد تلك النساء على التخفي وعدم تعرضهن للتفتيش، ولاحظ الدريس كثرة استعمال كوادر التنظيم في عملياتهم المحلية للألبسة النسائية خاصة العباءة. الأثر النفسي والاجتماعي وأعاد أستاذ علم النفس رئيس الدراسات المدنية في كلية الملك فهد الأمنية الدكتور ناصر العريفي، سبب تأثر المرأة في مجتمعنا السعودي بالأفكار المتطرفة إلى النواحي النفسية، موضحا أن المرأة في مجتمعنا بحكم انعزالها عن المجتمع الذكوري فإنه يمكن بالسهولة التأثير عليها من قبل زوجها أو أمها أو إخوتها إذا كانوا من حملة الفكر المتطرف، مستدلا بوجود نساء قد ساعدن أزواجهن في عمليات إرهابية عن قناعة بالأفكار التي يحملونها، وقسم آخر ليس لديهن توجه فكري منحرف لكن مساعدتهن لرجالهن تأتي باستخدامهن في الدعم اللوجستي من تقديم مواد غذائية وعمل تحويلات بنكية وخلافه، وأبان العريفي أنه من الصعوبة بمكان معرفة التطرف لدى النساء بسبب انعزال المجتمع الذكوري عن النسائي، مشددا على ضرورة التشديد على هذه القضية بإيجاد لجان نسائية مؤهلة للمناصحة، تعمل خصوصا على أسر المتطرفين لاحتمالية تأثر النساء بشكل كبير بأفكار أقاربهم. واعتبر أستاذ علم الاجتماع والجريمة المساعد في كلية الملك فهد الأمنية الدكتور عبدالله الشعلان، أنه من الخطأ تجاهل دور المرأة عند دراسة ظاهرة الفكر المتطرف، مؤكدا أن المرأة جزء من المجتمع تؤثر وتتأثر به من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي، وأوضح الشعلان أن المرأة بحكم تكوينها النفسي والعاطفي والاجتماعي هي أكثر احتمالا من الرجل بالتأثر بالفكر الضال إذا تعرضت له، مبينا أنه قد يأتي من أحد أفراد أسرتها أو من خلال زيارة مواقع الإنترنت التي تحمل الفكر الضال. وأفاد الشعلان أن تأثر المرأة بالأفكار المتطرفة لاينعكس على تنفيذ الأعمال الانتحارية فقط، بل قد يتعداه إلى التأييد والتعاطف والتحريض، والدعم اللوجستي، وعد الشعلان أن الخطورة تتعاظم عندما تنقل المرأة هذا التأثر بالفكر الضال إلى أبنائها أو زوجها بحكم مكانتها ودورها في البناء الأسري، وكشف الشعلان عن استخدام المنظمات الإرهابية للنساء كسلاح رخيص لدفع الرجال إلى التجنيد بدلا منهن من خلال خلق شعور بالخجل لدى الرجال، وأرجع الشعلان خفاء وعدم وضوح دور المرأة في العمليات الإرهابية إلى تأطر المرأة في مجتمعنا بمجموعة من القيم الاجتماعية ومحددات السلوك القوية، كعدم الاختلاط بالرجال وقيادة السيارة، مؤكدا أن دورها ليس منعدما بل مخف وغير واضح. ظاهرة نسائية وكان للنساء وجهة نظر مختلفة بحكم تعاملهن مع الأوساط النسائية، حيث أكدت أستاذ أصول التربية المساعد في جامعة الملك سعود في الرياض والعضوة السابقة في لجان المناصحة النسائية الدكتورة فاطمة السلمي أن التطرف النسائي موجود من خلال ما لمسته في المجتمع بمختلف فئاته، وأرجعت عدم ظهوره والإفصاح عنه بسبب تواريه داخل وفي أماكن تجمع النساء عكس الشباب الذي في الغالب يكون أمام الملأ، وحملت السلمي الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام مسؤولية ظهور التطرف النسائي، خصوصا بعدم زرع قيم المواطنة والإنتماء، معتبرة المناهج تتحمل جزءا من المسؤولية من خلال خلوها من غرس حب الوطن وطاعة ولاة الأمر لدى الطالبات ليكون لديهن حصانة ضد أي تطرف، ورأت أن الإعلام يساهم في تأجيج التطرف النسائي من خلال انشغاله بمهاترات بين فئات فكرية مختلفة جعلها تنحى منحى معاكسا لمعالجة التطرف الفكري، وعدت السلمي أماكن التجمع النسائي سواء في الجامعات أو المدارس أو عند الزيارات النسائية أو غيرها أكثر الأماكن لانتشار الأفكار المتطرفة، حيث يبدأ التفريغ، أما بذوره داخل الأسرة. وطالبت السلمي بضرورة إيجاد خط ساخن للتبليغ عن النساء والفتيات اللاتي يبثن أفكارا متطرفة، مع عدم المطالبة بأي إثباتات مما يجعل بعضهن تحجم عن التبليغ لعدم وجود أدلة معها بحيث يكون التحري من جهات مسؤولة. التهاون والتفريط لكن الأستاذة المساعدة في قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الملك سعود منسقة كرسي الأمير نايف للأمن الفكري في القسم النسائي الدكتورة وفاء الزعاقي رأت أن التطرف النسائي يشكل ظاهرة ليس في جانب حمل الأفكار المتطرفة والتحول لإرهابيات، بدليل عدم الحديث عنه ومناقشته بصورة سافرة أو إصدار قائمة بأسماء نساء مطلوبات أمنيا حتى تعد ظاهرة، وإنما التطرف الآخر الذي يعني التهاون والتفريط في القيام بالواجبات التي فرضها الله تعالى، مرجعة ذلك إلى طبيعة المرأة الضعيفة التي تميل لهذا النوع من التطرف أكثر من ميلها للتطرف الآخر وتبعاته الخطيرة التي لا تتلاءم مع طبيعة خلقتها وخلقها. وحملت الزعاقي ظهور التطرف النسائي بحمل الأفكار المنحرفة وتبنيها إلى عدم وجود جهة موثقة تتبنى الإجابة عن أسئلة الفتيات فتحاورهن في أفكارهن بمنتهى الاحترام والحب والشفافية، واقترحت الزعاقي عدة حلول لمواجهة التطرف الفكري لدى النساء من خلال فتح باب الحوار مع الفتيات بصورة منهجية مقننة، إضافة إلى تطوير وسائل تعليم العلوم الشرعية، وتعميق فهمها في النفوس، مشددة على ضرورة تثقيف الهيئة التعليمية والأسرة والمحاضن التربوية والإعلاميين تثقيفا دينيا وفكريا وأخلاقيا وسلوكيا، مبينة أن وعي هؤلاء بمعنى التطرف ومحدداته وأسبابه وسبل الوقاية منه كفيلة بحفظ المجتمع من التطرف. مواجهة درامية ولمواجهة مد التطرف النسائي على الصعيد الدرامي والإعلامي كان مشروع المسلسل الدرامي «وما ملكت أيمانكم»، لثنائي مسلسل الحور العين الكاتبة الدكتورة هالة دياب والمخرج نجدة إسماعيل أنزور، الذي يصور حاليا في سورية لعرضه في رمضان المقبل، حيث وصفت كاتبة العمل الدكتورة هالة بأن سبب توجهها لكتابة مسلسل يحكي التطرف النسائي هو إحساسها بأن المرأة مجرد منفذة لسياسات الرجل وإملاءاته، وليست هي صاحبة القرار فتطرفها هو صناعة ذكورية بامتياز، مبينة أن المسلسل يصور التطرف النسائي بأشكاله الثلاثة الروحي والجسدي والعقلي، عبر قصة ثلاث فتيات يدرسن جميعا في معهد خاص للغة الإنجليزية كلا منهن متطرفة باتجاه، حيث يهدف المسلسل إلى ضرورة الموازنة بين العقل والجسد والروح لمواجهة مد التطرف المعيق للتنمية والتطور. وخلص مخرج المسلسل نجدة إسماعيل أنزور إلى أن هذا المسلسل هو رؤية درامية للوضع في الشرق الأوسط الحديث، حيث يرصد بشكل درامي شيق الأحداث والتحديات المعاصرة، ومعاناة المرأة وسبب توجهها للتطرف، مبينا أنها محاولة درامية لكشف حقائق من خلال حكايا الشخصيات الأنثوية الأساسية، التي ستغير وجهة نظر المشاهد لرؤيته لهويته وللوضع الراهن للشرق الأوسط ودور المرأة في حال تحولها لأداة متطرفة في المجتمع والثمن الباهظ الذي سيدفعه مهما كان نوع هذا التطرف. وبالعودة للمتحدثين، فقد علق الدكتور خالد الدريس على أهمية الأعمال الدرامية والإعلامية في كشف ومحاربة التطرف النسائي بقوله: «هي وسائل مهمة للغاية متى وظفت بذكاء أما مجرد اسخدامها بدون رؤية إعلامية متميزة قد تضر القضية أكثر مما تفيد، كما رأينا في تجارب سابقة، لكن الدكتور ماجد المرسال رأى أن المعالجة إذا كانت متطرفة فلن تزيد إلا تطرفا، مستثنيا الموضوعات والمسلسلات الموضوعية المنصفة الواقعية والمقنعة والتي تكون دوافعها حسنة وصحيحة ومرامها النصيحة والإصلاح. واتفقت الدكتورة فاطمة السلمي والدكتورة وفاء الزعاقي على أن هذه الأعمال إذا كانت معالجتها الدرامية والإعلامية مدروسة وتسعى لتحقيق الأهداف المنشودة فإنها ستسهم في الحد منه، وطالبوا بالتوجه نحو خلق مثل هذه الأعمال مع مراعاة الضوابط الشرعية والاجتماعية.