اجتاحت التظاهرات والاحتجاجات أخيراً شارع المال في الولاياتالمتحدة (وول ستريت) في ظل استمرار بطء معدلات نمو الاقتصاد الأميركي واستمرار ارتفاع معدلات البطالة. وانتقد المحتجون تردد الحكومة في اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تحسين الوضع الاقتصادي وتقليص عدد العاطلين من العمل، في وقت أنفقت بلايين الدولارات لإنقاذ المصارف والشركات الخاصة منذ تفجر الأزمة المالية والاقتصادية في 2008. فهل يعتبر تخبط أداء الاقتصادات الرأسمالية دلالة على عجز نظام السوق الذي يجب استبداله بنظام، تكون فيه للدولة اليد الطولى في الحياة الاقتصادية؟ أم أن ما يحصل هو عجز حكومات الدول الرأسمالية عن تطبيق مستلزمات نظام السوق ذاتها؟ إن المتابع لنشوء وتطور النظام الرأسمالي أو نظام السوق، يدرك بوضوح أنه لا يعمل في فوضى بل يحتاج كي ينجح، إلى تشريعات وسياسات ومتابعة وتقويم في شكل مستمر. لذلك تعتبر إدارته أصعب بكثير وأكثر تعقيداً من نظام تتولى فيه الدولة وحدها إدارة الشؤون الاقتصادية. إن معظم المؤشرات الاقتصادية، كمعدلات الأجور والأسعار والإنتاجية وسعر الفائدة، تحتاج إلى تشريعات وشفافية ومحاسبة وسياسات اقتصادية ملائمة كي تؤدي دورها في شكل سليم في نظام السوق. لكنها تصبح أدوات للسياسة الاقتصادية عندما يتوسع دور الدولة في الحياة الاقتصادية ضمن خطط محددة. ولأن المبادئ الاقتصادية التي وضعها كارل ماركس والمنظرون الذين حاولوا بعده تطويرها، لم تتوصل إلى نظرية لتحديد معدل الأجر أو معدل السعر في نظام اقتصادي يديره القطاع العام، وصلت الأنظمة الإشتراكية التي تستخدم هذه المؤشرات كأدوات للسياسة الاقتصادية، إلى طريق مسدود بعد تطبيقها لعقود مع إعادة النظر بدور الدولة لمصلحة آلية السوق. لكن نظام السوق ذاته يحتاج إلى الكثير من تدخل الدولة لسن القوانين والتشريعات الخاصة بمنع الاحتكار والغش والتلاعب بالحسابات، والمراقبة والمحاسبة وتنفيذ سياسات مالية ونقدية وضريبية ملائمة، وحوكمة الشركات الخاصة والمصارف والأسواق المالية ليس فقط لضمان حسن أداء هذه المؤسسات، بل أيضاً لحماية حق المستهلك من إساءة تصرف هذه المؤسسات واستغلالها له، وحماية حق الدولة في الحصول على الإيرادات الضريبية التي تمكنها من تمويل نفقاتها وتحقيق عدالة أفضل في توزيع الدخل. وعليه فإن مهمة الدولة في سن التشريعات والقوانين وحسن تطبيقها وإجراء التعديلات والتحسينات التي يفترضها بعض الظروف في شكل طارئ أو دائم، تعتبر جزءاً لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الذي لم يأتِ كنظرية متكاملة منذ البداية بل تطور على مدى قرنين ونيف، أي منذ الثورة الصناعية في أوروبا في النصف الأول من القرن الثامن عشر. فالنظرية الرأسمالية، التي اعتبر تطويرها من قبل بعض الجامعات ومؤسسات البحث العلمي المرموقة في الدول المتقدمة مهمة أساسية لها، لم تعجز عن إيجاد الحلول الموقتة والدائمة للمشاكل التي واجهت النظام الرأسمالي كما حدث إبان الأزمة الاقتصادية العالمية في ثلاثينات القرن الماضي، على يد الاقتصادي البريطاني المعروف جون ماينرد كينز الذي طالب، ضمن إطار نظام السوق، بتدخل الدولة لإنعاش الوضع الاقتصادي وتحريك أنشطته من خلال السياسة المالية لتوفير فرص العمل التي عجز نظام السوق بآلياته المعروفة آنذاك عن تحقيقه. ونجحت السيطرة على معدلات التضخم الهائلة التي حصلت في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، نتيجة الضخ النقدي الكبير لتمويل الحرب من دون رقابة من خلال إعادة الاعتبار لدور البنك المركزي الألماني بعد الحرب، للسيطرة على عرض النقد والحد من حرية الحكومة في الاقتراض منه، بحيث أصبح الشعب الألماني الذي خسر معظمه ثرواته بسبب ذلك التضخم، مستعداً لإسقاط أية حكومة تدخل في خلاف مع البنك المركزي حول حجم المبالغ التي تريد اقتراضها منه. وهناك أمثلة أخرى كثيرة على معالجات مشابهة ابتكرت فيها ضمن إطار نظام السوق، آليات عمل جديدة و/أو شددت إجراءات الرقابة الحكومية والمطالبة بمستويات أفضل من الشفافية. لكن في فترة العقدين الماضيين ونيف، أي بعد عودة أفكار الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد خصوصاً ملتن فريدمان في الولاياتالمتحدة، مدعومين بحكومات مؤيدة ومشجعة لتلك الأفكار مثل حكومة مارغريت تاتشر في بريطانيا ورولاند ريغان في الولاياتالمتحدة، ظهر توجه واضح نحو الحد من تدخل الحكومة في نظام السوق وإعطاء المجال للمشاريع والشركات والبنوك بممارسة رقابة ذاتية على تصرفاتها. وما زاد خطورة ذلك التوجه أنه تزامن مع زيادة عولمة الأسواق المالية وازدياد عدد الأدوات ( المشتقات) المالية التي تستطيع المصارف والبورصات أن تجتذب من خلالها مزيداً من الزبائن لتحقيق مزيد من الأرباح، لكن بأخطار عالية وفي بعض الأحيان مرتفعة جداً. وفي وقت كان يجب أن يواكب تلك التطورات في أساليب عمل المصارف والبورصات وأسواق رأس المال، ابتكار أساليب رقابية جديدة للبنوك المركزية لا تقتصر فقط على نشاط البنوك التجارية كما هي العادة، إنما تشمل أيضاً كل ما استجد ظهوره من مؤسسات مالية جديدة كبنوك الاستثمار وشركات الوساطة المالية والبورصات، خصوصاً في ظل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تسببت في إمكان تحويل بلايين الدولارات حول العالم بسرعة متناهية، لم يحصل شيء من ذلك. فمن جهة لم تعِ المصارف المركزية الحد الذي انحسرت فيه قدراتها على الإدارة المالية والنقدية السليمة ضمن أدوات السياسة النقدية التقليدية. ومن جهة أخرى لم تتنبه الحكومات والمؤسسات المالية والنقدية الدولية الى ضرورة أن تضع موضع التداول وسائل رقابة ومحاسبة وتقويم جديدة، تتناسب مع تلك المستجدات، حتى تفجرت الأزمة المالية العالمية في 2008 والتي لا زال العالم، خصوصاً اقتصادات السوق نفسها، يدفع ثمنها. إن الحل لا يكمن بالمطالبة بإعلان التخلي عن نظام السوق والعودة إلى سيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية، بل في العودة إلى جذور نظام السوق الذي يعتبر دور الدولة جوهرياً لا يمكن الاستغناء عنه في التشريع والمحاسبة والرقابة. * كاتبة متخصصة في الشؤون الإقتصادية