..و «ألطف» هذا، صديق الشدة حين يأتي خريف الشهر فلا تبقى في جيبي سوى أنصاف الريالات. لا أتذكر كم مرة لجأت إليه لتبضع أرغفة خبز وماء بالدين الآجل. صداقتي معه كسرت الخجل بيننا؛ حتى وصلت بأسئلتي له ذات يوم إلى التنقيب عن سر نجاح بقالته في صدر الحي: كيف لها الوقوف في وجه موضة الأسواق الكبرى؟ لكنه قتل الإجابة بتجاهل السؤال. بقالته مستأجرة من سعودي يملك عظمها فقط، ولا غير العظم. لم أكن جريئا لأسأله كيف يأتي بقيمة البضاعة الضخمة التي تدخل بقالته كل أسبوع، وعن أرباح البيع النشط كل يوم. كنت أخشى على نفسي تهمة الحسد، فهم مثلنا يتشاءمون من هذه الأسئلة. ذات ظهيرة تحرك في داخلي الفضول الممزوج ب«اللقافة»، حين تسمرت أمام طاولة حساباته وأنا أرى شاحنة تفرغ نصفها في مستودعه. يعطيه صاحبها فواتير يوثقها في دفتر أسود ويودعه بالسلام فقط. لم أره يأخذ قيمتها نقدا أو شيكا أو يوثقها بكمبيالات موقعة وشهود عشرة. كانت بضاعة بالدين الآجل. يعود مورد الجملة الوافد ليقبض ثمنها بعد أسبوعين إلى شهر وثلاثة، وتحديدا بعد أن يضمن «ألطف» أرباحها، وهذه تعاملات تجارية يومية تشهدها أغلب بقالات المدينة كما عرفت لاحقا. سألت «ألطف» بعد شرحه السريع لسير عمل البقالات وبعد تكسيري للسؤال ليفهم: هل الشهامة والأخوة في بلاد الغربة، تجعل من صاحبك هذا بنكا متنقلا يقرضك بضاعة ويعود لأخذ قيمتها بعد أسابيع دون عقود أو شهود وكمبيالات ومرجع عمل؟ قال لي بجملة مكسرة أحاول ترتيبها: «هو يستفيد أيضا حين يأخذ نسبة على كل سلعة.. يشتري بالكاش ويبيعنا بالأجل المربح، وكلانا مستفيد». علمني «ألطف» درساً اقتصادياً تجارياً لمثلي الجاهل بعالم الأعمال، ولأمثال شابين جالسين على عتبة بقالته، فيهما كل مظاهر بؤس العاطلين. لم أخبرهما بدرسه في علم تجارة الوافدين لسببين: أخشى أن أحبطهما حين يكتشفان أنهما على مرمى رجل أعمال صغير في طريقه ليكبر، ولأني أعرف حاجتهما لصداقة متينة مع صاحب شاحنة كصاحب «ألطف» ليبدآ الطريق، فلماذا أعلمهما الدرس؟. حلمت بعدها حلما ورديا وأنا أعدد شركات البيع بالجملة في مدينتي والمملوكة لرجال الملايين السعوديين. حلمت بشاحنات بضائع تطوف بقالات فيها سعوديون بشهادات متواضعة، تبيعهم على ذات طريقة «ألطف». حلمت بخبر على صدر صحيفة: «رجل أعمال يقرض بقالات فيها سعوديون بالدين الآجل والفائدة البسيطة»، وحلمت حتى وصلت إلى كل محلات الألبسة والطعام والأثاث في مدينتي. لا يملك «ألطف وشلته المليونية» شهادات في التسويق، هم بشهادات أقل منا، لكنهم يعرفون كيف يأكلون كتف الرزق وظهره وأضلاعه في البلاد، فيما نحن مشغلون بتتبع نقاشات الشورى عن صرف رواتب للعاطلين. لا ينتظر «ألطف» شيئا من ذلك: هو سعيد حين يهاتف زوجته وفي جيبه العلوي ورقة زرقاء اسمها: 500 ريال، وسيكون سعيدا أكثر إذا ورث ابنه بقالته بعد سنوات عندما يجيء على كفالة سعودي عاطل يبيع تأشيرات. إنها الأرزاق. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 245 مسافة ثم الرسالة