المتهم ليس بريئا حتى تثبت إدانته!!.. هذه هي حقيقة النظرة الاجتماعية تجاه من يتهم، سواء في مرحلة التحقيق أو في مرحلة المحاكمة. مهما حاولنا أن نسوق من حجج قانونية، ومهما قدمنا من مبررات لمبدأ: المتهم بريء حتى تثبت إدانته. نعم هذه هي الحقيقة القانونية، ولكن هل هي حقيقة اجتماعية أو شعور حقيقي عند المجتمع. أشك في ذلك!! وشواهد الحال خير دليل على ذلك، فما أن يقبض على شخص أو عدة أشخاص حتى تنطلق الأوصاف المتشحة بالإدانة والمنطوية على الإثبات. وقد نصب عدد من الكتاب والمثقفين أنفسهم محققين وقضاة, ولم تسعفهم ثقافتهم اللغوية- على الأقل- لاختيار أوصاف الاتهام، بل وازنوا الأدلة وأصدروا الأحكام، وكأنهم لم يتركوا للأجهزة المختصة إلا التنفيذ، والتنفيذ فحسب!! وإذا كان المتهم في قضية رأي عام، أي تلك القضايا التي يهتم بها الرأي العام، فإن الأمر يصبح حكما مسبقا مصحوبا بحالة الاحتقان والغضب حيال هذه القضايا. وكأن المجتمع يستعجل معرفة الفاعل، أو يريد فاعل أي فاعل، حتى ولو كان كبش فداء. والحقيقة أنه لا يسلم من تأثير الرأي العام حتى المهنيين القائمين على إجراءات التحقيق أو المحاكمة؛ فهم يقرؤون الصحف، ويخالطون الناس، والتأثير سيطاولهم بالسلب أو الإيجاب. والقلة من المحترفين يستطيعون النجاة من هذا التأثير؛ ليقيموا العدل بميزانه وليس على هوى (ما يطلبه المشاهدون). والغريب أن الاتهام ينال كل اهتمام في البداية، ثم يتقلص الاهتمام الاجتماعي تدريجيا في مرحلة المحاكمة. فإن صدر الحكم بالإدانة صفقت الجموع مرددة عبارات العدل والقصاص، أما إذا صدر الحكم بعدم الإدانة (البراءة)، كان الاستياء تجاه القضاء والقضاة. وكأن الناس يريدون أن يصدق القضاة على أحكامهم المسبقة، وليس النظر في الدعوي وتقدير الأدلة. إن عوامل عديدة تشترك في هذا الوضع، قد يصعب في هذا المقال عرضها. ولكن اعتقد أن الإعلام يلعب دورا في ذلك، فالعبارات الصحفية تكاد تكون ميالة تجاه الإثبات، والكتاب انتابهم شعور من اليأس في محاسبة سراق المال العام، لدرجة أنهم ابتهجوا بكل خبر يحمل أمرا بالقبض على هذا الموظف أو ذلك المسؤول. حفلة المحاسبة بدأت ولا صوت يعلو على معركة محاربة الفساد!! ثم إن انطباعا لدى الناس تولد مع تراكم السنوات؛ أن المتورعين عن المال العام قد ذهبوا، ولم يعد الأمر يتعلق بأخذ المال العام؛ وإنما بالرفق في أخذ المال العام والتكسب من الوظيفة. وكأن الحال يقول: كلوا ولكن بالمعروف. حتى أن البعض يردد أن فلانا أخذ الكثير، ولكنه قدم الكثير. امدحوه فقد أكل ولكن بالمعروف!!. التشهير بكل مقترف لجريمة ليس خطأ، ولكن يجب التوقف حتى يقول القضاء كلمته، وعندما تصدح منصات القضاء بالأحكام صفقوا للعدل، فالأصل أن الحكم عنوان الحقيقة. انتظروا ( كهيئة محلفين مفترضة) حتى تصدر الأحكام، بل لكم الحق في حضور المحاكمة؛ لأن الأصل أن المحاكمة علنية؛ فالعدالة لا تعرف إلا الأبواب المشرعة. حتى وإن قام موجب لسرية بعض الجلسات؛ فالحكم يجب تلاوته في جلسة علنية. وما سوء الظن في بعض الأحوال إلا بسبب أحكام خلف أبواب موصدة، والناس ( يسترقون) السمع؛ لأن الأبواب موصدة والقلوب معلقة بالحقيقة التي طال انتظارها. لا نفتقد نظاما جزئيا يجرم الفساد الإداري بكل صوره، يحاسب قطاع طريق المال العام، يتربص بمن دخلوا الوظيفة حفاة عراة، وخرجوا منها بالسعادة والمعالي في المال. دخلوا كالمناشير تأكل في كل اتجاه. ولا نفتقد نظاما يردع ويزجر، ولكن تذكروا أن النص النظامي حبيس العبارة والإرادة، لا يد له ولا لسان. لابد له من قائم عليه يورده موارد العدل، قائم يؤدي بالمعروف ولا يأكل بالمعروف أو بغير المعروف. * استاذ القانون المساعد في جامعة الملك سعود