«بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة الحضور الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يسعدني أن ألتقي، اليوم، من أخذوا على عاتقهم مهمة القضاء بين العسكريين، مهمة تحقيق العدل بينهم، قولاً وفعلاً، حركة وثباتاً، سلماً وحرباً، رجالٌ يحرصون على حق العسكري في أن يحظى بمحاكمة عادلةٍ يحافظون على آدمية الإنسان، الذي كرمه الله، وجعله خليفة في الأرض. ألتقي أناساً يحملون أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة، أشفق عليهم من حملها، فإن أدوها ارتفعوا إلى مصاف الصالحين الأبرار، وإن أهدروها ذاقوا الأمرين في الدنيا والآخرة.إن قائمة الضيوف الكرام تظهر تباين الوظائف وتشعبها. وظائف تهتم كلها بمصلحة الفرد ورعايته، وعلى الأخص العسكري. وإذا كانت المملكة حريصة على أن يستشعر كل إنسان العدل، فالفرد العسكري أول من ندعو إلى ضرورة إحساسه بهذا العدل، حتى يبذل الجهد، وهو مطمئن أن وراءه نظاماً قضائياً، ينصفه إذا ظلم، ويقومه إذا أخطأ، ويرشده إذا ضل. فمرحباً بضيوف المملكة، مهد الإسلام، الذي أرسى حقوق الإنسان في السلم والحرب، قبل الأممالمتحدة بأربعة عشر قرناً من الزمان. الإخوة الحضور: تعودت عند حضوري مناسبات علمية، ألا تكون مشاركتي خطاباً منمق الكلمات، وبليغ العبارات، ترحب وتشيد، تثني وتشكر، تدعو وتتمنى، بل أحرص على أن أشارك العلماء والباحثين، الأساتذة والمحاضرين، الرأي وأبادلهم الفكر، وأنهل من خبرتهم، وأبدي بعض الملاحظات، التي لا تنتقص من جهدهم، ولا تقلل من تميزهم. أولاً: سأبدأ بالدافع الرئيسي، الذي حفزني على حضور مؤتمركم الرابع، ألا وهو العدل وتحقيقه، العدل الذي أدعوكم أن تجعلوه هدفاً أسمى، في كل خطوة تخطونها، وفي كل إجراء تتخذونه، وفي كل مرحلة تتبعونها. عدل يراعى خلال الدورة القضائية كلها: من التحقيق إلى الادعاء إلى المحاكمة وإلى المصادقة وتنفيذ الأحكام. إن القضاء مسؤولية تنوء بحملها الجبال، فالأحكام تصدر عن تطبيق للقانون، وعما يستقر في ضمير القاضي ووجدانه وقناعاته، فكيف يهنأ وهو يصدر حكماً قد يؤدي إلى ظلم بريء؟! فالظلم ظلمات. والله – سبحانه وتعالى – يكره الجهر بالسوء ولا يرخص فيه إلا لمن ظلم. وفي دولة، القرآن العظيم دستورها، والشريعة السمحاء منهجها، يضحى العدل قوامه احترام آدمية الإنسان، احترام كرامته وحريته، وعدم إذلاله، فلا يضرب، ولا يهان، لا يعذب ولا ينتهك، لا يجوع ولا يعرى، لا اعتداء على عرضه، ولا استيلاء على ماله، ولا تهديد ولا وعيد. فالمادة الخامسة من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» تنص على ألا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة. وفي المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة من دون أية تفرقة. ثانياً: استطراداً للعدل وتحقيقه، تبرز أحقية أن يلقى المتهم محاكمة عادلة في ظل سيادة القانون، والتي يقصد بها أن تسترشد إجراءات المحاكمة كلها، من بدايتها إلى نهايتها، بمواثيق المحاكمة العادلة، التي وضعها المجتمع الدولي، وأن تتولى سلطة قضائية مستقلة محايدة تنفيذ هذه المواثيق، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في شأن معايير المحاكمة العادلة، ينص في المادة العاشرة منه على أن «لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة نزيهة، نظراً عادلاً علنياً، للفصل في حقوقه والتزاماته، وفي أي تهمة جنائية توجه إليه». ويعد الحق في المحاكمة العادلة معياراً من معايير «القانون الدولي لحقوق الإنسان». ثالثاً: بدأنا العدل وتحقيقه، ثم بالمحاكمة العادلة وشروطها، ثم المعايير الدولية لحقوق المتهم، ونكمل الحديث بضرورة استقلال السلطة القضائية، بوجه عام، والقضاء العسكري، بوجه خاص. فليس من المحتمل أن تتسم المحاكمة بالإنصاف، إذا كان المسؤولون عن إصدار الأحكام والعقوبات يفتقرون إلى الاستقلال والنزاهة. وقد أكدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، أن حق المحاكمة أمام محكمة مستقلة ومحايدة، هو حق مطلق لا يجوز استثناء أحد منه. أي أن القضاء يجب أن يتمتع وحده بسلطة الفصل في القضايا المحالة إليه. ويجب ألا تتعرض الهيئة القضائية ككل، وألا يتعرض كل قاض على حدة، إلى التدخل في عمله. ويجب أن يتمتع القضاة بحرية الحكم في المسائل المعروضة عليهم استناداً إلى الحقائق الثابتة وبموجب القانون. وقد وضعت هذه المعايير في «وثيقة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية». بناء على ذلك، فإنني أدعوكم إلى وضع تنظيم خاص يضمن الاستقلال التام للقضاء العسكري، وأن يكون ذلك التنظيم من ضمن الإدارات المركزية المرتبطة بالوزير مباشرة، فضلاً عن وجود وحدات لرقابة القضاء العسكري وأحكامه، والتأكد من نزاهته الكاملة، وتحقيق كل ما نصبو إليه من عدل وقسط. وبإعادة هيكلة المنظومة القضائية العسكرية وتطويرها، تتحقق كفاءة كوادره، وفاعلية إجراءاته، وجودة أحكامه، وسرعة الفصل في الدعاوى المقامة، وتقصير أمد التقاضي، ومراقبة تنفيذ أحكامه. وهذا ما أرجوه. رابعاً: انتقل إلى موضوع آخر له الأهمية نفسها، وهو اختيار القضاة العسكريين، اختيار يرسي العدل، ويطمئن العسكريين. فمن المعلوم أن القاضي إنما يحاكم المتهم ولا يحاكم الجريمة، مراعياً الحالة النفسية والذهنية للمتهم وظروفه ودوافعه وقت ارتكابه الجريمة. وهذا هو العدل في القضاء. وقد اشترط عمر بن عبدالعزيز – رضي الله عنه – سبع خصال ينبغي توافرها في القاضي، هي: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم، والحكمة. ومن وجهة نظري، أرى أن هناك سمات أساسية، يجب أخذها في الحسبان، وأنتم تحددون الشروط الواجب توافرها عند اختيار القضاة، وهي: المقومات الدينية والخلفية، والقدرات الذهنية، والمعرفة العلمية، واللياقة البدنية، والصحة النفسية، وقد أوجزت مجلة الأحكام العدلية شروط القاضي، عسكرياً كان أم مدنياً، في عبارة مختصرة بليغة، إذ نصت إحدى المواد أن القاضي ينبغي أن يكون: حكيماً، فهيماً مستقيماً، أميناً، مكيناً، متيناً». خامساً: وماذا عن الحكم القضائي، عسكرياً أو مدنياً؟ إن الحكم القضائي عمل بشري، يعتريه ما يعتري أعمال البشر من التميز أو الضعف. لذا، فعلى القاضي أن يحرص على استيفاء الحكم عناصره، وتحقق شروط أربعة في أسلوبه، أولها: الوضع، فالحكم القضائي، هو عنوان الحقيقة، لذا ينبغي أن تكون الحقيقة ناصعة جلية، واضحة لا موضع فيها ولا إبهام. ثانيها: الإيجاز والتركيز، فالإيجاز سمة من سمات البلاغة. ثالثاً: وحدة التعبير، وهي صياغة الحكم كله بأسلوب واحد، هو أسلوب الكاتب نفسه أو أسلوب القاضي. رابعها: وهو أهم ما يجب مراعاته في الحكم القضائي، وهو اتباع قواعد اللغة العربية الصحيحة. والهدف من ذلك كله، هو: ألا يكون الحكم معيباً، وأن يتميز: بجمال في التعبير، ودقة في الاستخلاص، والتزام بالقانون، تحقيقاً للعدل. سادساً: تابعت توصياتكم في ختام المؤتمرات الثلاثة السابقة وما اتخذ في شأنها فوجدت أن أربعاً وعشرين توصية من سبع وأربعين قد نفذت، وأربع عشرة توصية جار تنفيذها، وتسع توصيات فقط، لم تنفذ حتى الآن. وهذا جهد طيب ينبغي الإشادة به. ولكني أود أن تكون توصياتكم القادمة أكثر تحديداً، وأبلغ تعبيراً، وأن تشتمل على خطط تنفيذها وتكلفتها التقريبية، فضلاً عن توضيح مستويات مسؤولية التنفيذ والرقابة: بدءاً من مستوى ديوان المحاكمات العسكري، حتى مستوى وزارة الدفاع. مع البعد عن العموميات، قدر الإمكان، فما أسهل التعميم، وما أصعب التخصيص! ذلكم ما يجعل توصياتكم بناءة، ويوحي بعمق الدراسة، ويسهل اتخاذ القرار. =سابعاً: كان بودي أن تصلني أوراق العمل، التي ستلقى أو تناقش، خلال مؤتمركم، في وقت مبكر لاطلع عليها فأستزيد علماً وخبرة، وأتمكن من تبادل الرأي والمشورة مع معديها. ثامناً: حرصاً على مجهودكم، الذي تبذلونه بجد وأخلاق، أرجو أن أرى في ختام كل مؤتمر توثيقاً لأنشطته وفعالياته، في كتيب وأسطوانة مدمجة يعممان على أفرع القوات المسلحة، والجهات الأخرى ذات الصلة بالقضاء العسكري، استفادة من مرئيات تلك الجهات ومتابعة للنتائج والتوصيات. تاسعاً: لا أجد ما أختتم به كلمتي أبلغ من «رسالة القضاء»، التي وجهها الخليفة العادل عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، عندما ولاه قضاء الكوفة، وسأكتفي بمقتطفات منها، تقديراً لوقتكم، إذ قال: «أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة. فافهم إذا أدلى إليكم، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر، فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر». عاشراً: لا يفوتني أن أنوه بجهود القائمين على شؤون مؤتمركم هذا، وأخص بالذكر ديوان المحاكمات العسكري والمجالس العسكرية، رئيسها، وضباطها، ومدنييه، العاملين فيها كافة. والشكر مرفوع إلى مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين، وسيدي سمو ولي عهده الأمين، وسيدي سمو النائب الثاني، قيادة عادلة، حكمت بين الناس بالعدل، أرست وترسي قواعده وأسسه، ترفع الظلم، وتعيد الحق إلى أصحابه. إنهم إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا. بارك الله فيهم وأعانهم على إقرار الحق، وإقامة العدل، فإن المقسطين، في الدنيا، على منابر من نور في الآخرة. ختاماً: أقول لكل من يعمل في القضاء العسكري: استزيدوا بالعلم، وتحصنوا بالخلق، وتطهروا بالإيمان، يجري الله الحق على أيديكم، ونطق به ألسنتكم».