عبر فقهاء الشريعة الإسلامية في أبواب المقاصد العامة والكليات الشرعية عن المال بأنه: «إحدى الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على حفظها، وهي: الدين، النفس، المال، العقل، والنسل». وتجلي الحفظ والحماية للمال العام بما يوجب تقييم أركانه، وتثبيت قواعده، وعدم الاستيلاء عليه، ونهبه بالطرق الملتوية لما يترتب على ذلك التعدي من الاختلال بمنظومة المحافظة عليه والاستفادة من استخدامه في الطرق المشروعة ولما خصص له، وقد أوضح الإمام الشاطبي (790ه) في الموافقات التجريم للتعدي عليه، والعقوبة التعزيرية في السطو عليه، وتضمين المتعدي بالرد. فمنذ قيام الدولة الإسلامية وأمر تنمية الموارد وصرفها في الأوجه الصحيحة ديدن الخلفاء والملوك والسلاطين، وسلوك منهج المحاسبة والمخالفة والانتهاك له محاطة بسياج التفعيل العقابي، كما كان ذلك مطبقا في عهد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم لمرافق المجتمع والمصالح كافة والطرق والأراضي، وأن التلاعب بالمناقصات وهدر المنظم بقواعد يوجب الحماية والعقوبة من قبل الدولة إذا حصل التعدي عليه، واستغلال الموظف لنفوذه واختلاسه وتبديده وتفريطه للأموال العامة أمر يوجب المعاقبة، حيث نص المرسوم الملكي رقم 43 في 29/11/1377ه وما تبعه من أنظمة صدرت بحق المتعدي عليه بالعقوبة. وقد خص خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز، رئيس ديوان المراقبة العامة باستقبال رسمي ولفتة كريمة، اطلعا خلاله على تقرير الديوان والمخالفات التي وقعت في بعض الأجهزة، وهو حدث استهل في مطلع العام الهجري الجديد. ومن خلال ما تمت تلاوته من تقرير رئيس الديوان أمام الملك وولي العهد والذي نقل عبر وسائل الإعلام جزء منه لعدم وقوفنا على كامل التقرير اتضح منه ما يلي: أولا: الدعم المتواصل والسعي الحثيث لقيام الديوان بالواجبات المنوطة به ووجوب ممارسته اختصاصاته بحيادية واستقلال تام دعما من الملك وولي العهد والنائب الثاني. ثانيا: قيام الديوان انطلاقا من اختصاصاته بالرقابة بعيدا عن المجاملة وبكل حيادية في السعي لتفعيل السياسة الإصلاحية في الشأن المالي والإداري لأنظمة الدولة، حيث عمل الديوان جادا على المسارعة في تحقيق وتطبيق مفهوم الرقابة على المرافق الحكومية والمؤسسات والشركات التي تدخل في إطار وشمولية اختصاصات الديوان الرقابية بكل شفافية وموضوعية. ثالثا: من خلال الجولات الرقابية تكشف للديوان حسب تقرير رئيسه بعض المخالفات التي أدهشت المواطنين واستغربوا حدوثها ونحن في عصر الشفافية والمساءلة والمحاسبة، ومثال ذلك ما رصده الديوان من مخالفات من قبل بعض الجهات الحكومية في الصرف دون وجه حق أو مستند نظامي، وعدم الاكتراث بمهمات الديوان المنوطة به مما ترتب عليه عدم التعاون والتجاوب والاستمرار المتكرر في المخالفات دون رادع أو زجر وعقوبة مادية ومعنوية وأدبية. رابعا: نتيجة عدم حزم إدارات الرقابة في بعض الدوائر الحكومية والمؤسسات أدى إلى ضعف الرقابة الداخلية الوقائية من قبل بعض المسؤولين في الدوائر الرقابية كما جاء في تقرير رئيس الديوان. خامسا: الملاحظة الجوهرية من قبل الديوان في عدم تقيد الأجهزة الحكومية بالأنظمة المالية وتعليمات تنفيذها على الوجه الصحيح والمشروع، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تأخير وتعثر المشاريع الحيوية وخلل منظومة التنمية وإنهاء المشاريع العمرانية. وبعد: فإذا كانت الشريعة الإسلامية في سنها للقوانين في أنظمة الدولة غايتها حماية الأموال العامة استنادا إلى مصادر التشريع وما أبانه فقهاء السياسة الشرعية، فإن المقتضى الشرعي يستوجب منع التصرفات في الأموال العامة والتعدي عليها بدون وجه حق ومسوغ نظامي، إذ في ذلك ضرر على مصالح الأمة العامة والخاصة، وضياع للمسؤولية وخيانة للأمانة، وتنمية ثقافة السلب والنهب المحرم شرعا، وهو أمر يستوجب عقوبات رادعة في حق المتعدين على هذه الأموال، وتمتد لكل مسؤول أيا كانت صفته ومرتبته، فالترك والتسيب يترتب عليه بلادة في الحس وفقدان للوطنية والمواطنة، وتتولد أجيال تحمل السلبيات وعدم الخوف. فتقرير الديوان، وإن لم نقف على مضامينه كاملة، فهو مناط تقرير الأحكام، وإلا يحاكم في تحقيق المصلحة العامة ودرء المفسدة، فتفعيل مؤسسات الرقابة والتشريع أمر واجب شرعا وقانونا، وهو محط اهتمامات ولي الأمر. * أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة في جامعة الملك عبد العزيز، محكم قضائي معتمد في وزارة العدل، عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي