كان ذلك في الربع الأول من ثمانينيات القرن الميلادي الماضي، كنت حينها في مرحلة التحضير للدراسات العليا وفي زيارة خاصة لمدينة بورتلاند (ولاية أوريغان) حين تشرفت بلقاء الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز في مقر إقامة سموه حيث كان يتلقى تعليمه الجامعي، وامتد النقاش بيننا حول هموم الوطن الذي كان وما يزال يشكل عصب اهتماماته، وتطرق الحديث بيننا إلى الفساد، الذي لم يكن وقتها بهذه الحال، وبالتالي لم يكن يشكل ظاهرة، أو هاجسا مؤرقا للدولة والمجتمع، مثلما وصل إليه الحال في وقتنا هذا. كان رأيي الذي طرحته بين يدي سموه وقتها، إن الدولة يجب أن تضرب بقوة القانون كل مظهر من مظاهر الفساد وأن تعلن محاكمة المفسدين على الملأ، وأن يشهر بهم بين الناس، وأننا يجب أن نحاكم المسؤول القوي الذي أعطاه ولاة الأمر شرف الخدمة العامة، قبل أن نحاكم المأمور الضعيف، الذي ربما يشفع له ضعفه وفقره وعجزه عن مقاومة إغراء خيانة أمانة المسؤولية، وكان رأي الأمير وقتها، فيما أذكر تماما، أن الإعلان عن أشكال الجرائم هذي مما لا يستحسن، فهذا يشبه إشاعة الفاحشة ربما، وهو من ناحية أخرى يضعف من ثقة المواطن في المسؤولين عامة. تذكرت هذه الجلسة الكريمة مع الأمير بعد كارثة السيول والأمطار في جدة، وبعد القرار التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول الكارثة وحجمها وتداعياتها ومحاسبة المسؤولين عنها. لقد كانت هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن الأمر ببساطة يتلخص في أن ولي الأمر يمنح أحد المواطنين ثقته ليتولى عنه مسؤولية المواطنين، وهذا في حد ذاته تكريم ليس بعده من تكريم، ولكنه في الوقت نفسه مسؤولية كبيرة، يجب أن يبذل هذا المواطن أقصى ما في وسعه لاستحقاقها، إلا أننا نجد على العكس أن هذا المواطن يعتبر أن هذه المسؤولية تكريم ومكافأة له لذاته، ومن هنا تلاحظ أن هؤلاء ما أن يتم اختيار أحدهم حتى يسارع إلى إحاطة نفسه بكل ما من شأنه تأكيد جدارته، ليس بالعمل الجاد المثمر، وإنما بإحاطة نفسه بترسانة من الديكورات والأشخاص التابعين، جاعلا منهم حاشية له، ومن المرفق العام ضيعة ضمن أملاكه الشخصية، بل أن بعضهم يعتبرها فرصة للإثراء. حسنا في مثل هذه الحالات ما الذي يمكن أن يحدث ؟ ما يمكن أن يحدث هو أحد احتمالين: أن نحافظ على الشكل الخارجي من طهر افتراضي لا وجود له في الواقع، أو أن نعترف بما عندنا من خلل، ونحاسب المسؤول عنه علنا، وهذا هو الخيار الثاني. في الحالة الأولى سيفقد المواطن ثقته بالمسؤولين لأنه يرى الفساد بعينيه يرتع أمامه ولا يجد من يتصدى له. وعلى العكس حين يجد من يراقب ويتابع آداء أجهزة الدولة ويرصد ما يرتكب فيها من مخالفات ويحاسب المسؤولين عنها، ففي هذه الحالة يطمئن بال المواطن، ويشعر بالأمان والاطمئنان، فهناك عين تسهر على مقدرات وطنه وثرواته وقيم العدل فيه. صحيح أن بعض قيمنا الاجتماعية تدعونا إلى الستر وعدم الفضح، ولكن ديننا الحنيف يأمرنا بإقامة حد السرقة، والتشهير، بمن يعيثون فسادا في الأرض، وليس مثل الذي يخون أمانة ولاة الأمر وثقة المواطنين مفسدا في الأرض، خاصة إذا كانت خيانته للأمانة تتسبب في إزهاق أرواح نفوس بريئة، فمثل هؤلاء أحق بأن يلحق بهم الأذى وأن تصادر أموالهم جزاء ما فعلوا. * أكاديمي وكاتب سعودي www.binsabaan.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 215 مسافة ثم الرسالة