لأول مرة أدرك معنى المقولة العربية الشهيرة: «بلغ السيل الزبى»!! حاولت أن أقف أمام البيان التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، بشأن كارثة جدة، فأعياني الوقوف، لأن البيان يحمل بين سطوره، وطي حروفه من المعاني ما تعجز الكلمات عن الإلمام به، ويعتمد من المواقف ما يبعث على الرهبة الصاعقة للزلات، ،والهيبة الحارقة للعبارات، والعاطفة الخانقة للعبرات. لقد كتب الكثيرون، فأسالوا مدادا كثيرا، وقرأ القارئون، فأجالوا عيونهم في سواد السطور طويلا، لكن البيان أتى بقياسات أدق، وبعاطفة أرق، وبعزيمة على الكتاب والقراء أشق، فبقي – كما أراه – أسمى من الحروف، وأدمى من الجروح. ولأنني – كباقي المتابعين؛ كتابا وقراء – أحمل قلما يسيل هما وطنيا دافقا، وانتماء نخيليا باسقا، وولاء سعوديا سامقا، فقد انتبذت لقلمي صفحة، رأيت أن أعمل في سطورها حرفا عامرا بالحزن والأسى، مثلما عبرت سيول جدة في أجساد الأهل سيفا عارما بالقطع والأذى!. هناك، حيث مسرح الدراما الحديث المستحدث، صارت الأبواب الخشبية أطواق نجاة لمن نجا، والأثاث المتخم بالسيل سرر فرار لمن فرت به رئتاه من الغرق، وصارت العناوين الفارهة وديانا عالية، فالتهمتها السيول من على القمم، وكانت قبل ذلك تشرب السيول في نهم! هناك، في جدة، أتخمت الأجساد؛ طريها، وصلبها، ماء قاتلا، وشبعت الأرصفة والجدران صرخات، لم تسعف أصحابها حدتها، ولم تنفعهم رائحة الخوف التي ملأت الأرض والأفق، فصمتوا بعد طول صراخ، وخمدوا بعد لحظات اشتعال.. لم تستطع أيديهم المشرعة في في الهواء أن تهديهم إلى واد سحيق يلجأون إليه، أو معبر كان من المفروض أن يسلكوا ماء موتهم فيه، قبل أن يسلكهم هو في فيه!. هناك، في جدة، كانت القلوب على موعد غير دقيق مع الحياة، ففاجأها نبض غير الذي ألفته، وجرفها دفق ليس ما يعبر شرايينها منه في شيء. كانت الأجساد في صراع مع الأرواح، فاختارت الشهادة على البقاء عند شفا جرف هار، كي لا ينهار بها في موعد آخر أكثر دقة، وأشد أخذا!. لعله السيل الذي حاولت مرارا الكتابة فيه، فبقيت أدور حوله، منذ كان يساورني، وأنا أتنقل على مرأى منه، بين البيت والمدرسة، أو على غيظ به، بين المرتع والقرار! لا يزال سيل «بيشة» يعبرني إلى الآن في اليقظة، وفي الكوابيس، لأنني امتلأت منه عن آخري رعبا، ووليت من زبده بكل طاقات خطاي فرارا.. لكنني قهرته، وأبقيته حبيس غيظه، ونجوت.. ولست أدري إن كان قد احتال، فهيأ لي، أنني ألجمته سيله هناك في بيشة، ليمتد في غفلة مني، فيلقمني هوله هنا في جدة! كأنه لم ينس أنني ذات سيل كاسح، رميته بدراجتي، فشججت وجهه، وعدت منتصرا، ولو على قدمين أدمتهما صخوره الشرسة.. كأنه لم ينس، فرماني في جدة بعرباته ، فطحنت قلبي، فعبره هازئا بغفلتي، وربما بخيبتي، وأعلن أنه قد قهرني أخيرا! هناك في جدة، ارتفعت في الأفق لوحتان بحجم أحزان جدة.. الأولى أترعت لونا فانيا، والأخرى أشبعت كلاما قانيا، ولم نعد نعرف أي اللونين يمهر الكارثة! كانت الشفاه في الأولى تسأل شراعا، وكانت الأفواه في الأخرى تحمل يراعا، وبين عبث السؤال، وعسل الكلام، غرقت الحقيقة في مشهد طبيعي هنا، وغير طبيعي هناك، بينما ذابت ملامحه ومكوناته الحقيقية في رئات الذين تذوقوه، وغابوا، ليتركونا نهب أسنان التخمين، وأشجان التبيين!. على مرمى انشداهة واحدة منا، سقطت اللوحتان، ولم نلتقطهما أبدا.. لأن الأولى تحتاج إلى سواعد لم ترهقها السباحة في بطن السيل لالتقاط الأكباد، ولأن الأخرى تحتاج إلى شواهد لم تملأها أسماء الذين سقط أصحابها في ذات سيل عرم، ولم تلونها زرقة الاختناق البريء على مسرح جدة غير الطبيعي!. حاولت أن أقف أمام البيان التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز آل سعود، بشأن كارثة جدة، فأعياني الوقوف مرة أخرى، فتوقفت، على أن أعيد المحاولة فيما بعد، مع يقيني أن هذا البيان قد ملأ البعض رعبا، وكسا البعض حنانا، وأبقانا جميعا رهن الآتي، الذي لم تكف العيون عن التحديق في ملامحه المريرة حتى الآن، وستبقى.. إلى أن تنام قريرة على وقع زلزال هذا البيان!. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 132 مسافة ثم الرسالة