قبل ثلاث سنوات كتبت عدة حلقات ( ست حلقات ) في جريدة عكاظ، تحت عنوان «أيام ومشاهد جداوية» وذلك بمناسبة زيارتي إلى جدة بناء على دعوة كريمة من رجل الأعمال والمثقف الأستاذ عبد المقصود بن محمد سعيد خوجة وذلك لحضور فعاليتين مهمتين الأولى هي: مناسبة تكريم الأديب والمؤرخ والباحث المرحوم الأستاذ محمد سعيد خوجة والذي نظمته جامعة أم القرى في مكةالمكرمة وحضرها جمع غفير من أساتذة الجامعة والمثقفين والأدباء من مختلف مناطق المملكة، والفعالية الثانية: تمثلت في أمسية ثقافية استضافتها اثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجة المشهورة والغنية عن التعريف تحدث فيها الشخصية الدينية البارزة الشيخ حسن الصفار والتي محورها «حوار المذاهب». في مقدمة تلك الحلقات كتبت «أمضيت أياما معدودة لكنها حافلة وغنية بالنسبة لي في مدينة جدة أو «عروس البحر الأحمر» وفقا لوصف محبيها وعشاقها وأنا أزعم أني أصبحت منهم، مع أني لاحظت علائم الشيب يغزو شعرها ومظاهر الهرم تعلو جسدها من ناحية الشكل والمظهر وليس المضمون والجوهر، كنت أتساءل: لماذا تهرم وتهزم المدن العربية؟، تحدثت عن افتتاني إلى حد العشق والهيام بالمدن القديمة العريقة التي تحمل عبق وعمق الأصالة (تراث وثقافة وأحياء شعبية وفلكلور وطرق وزوايا) الحضارية والتي تزهو بها مدينة جدة (ومنطقة الحجاز) مما يجعلها في مصاف المدن العربية (المشرقية ) القديمة والعريقة كقاهرة المعز ودمشق الأمويين وبغداد الرشيد، وقبل كل شيء فإن أصالة وعراقة وحيوية وحداثة جدة (المدينة التي لا تنام) مستمدة من أصالة وحيوية أهلها وساكنيها الطيبين وقدرتهم المدهشة على التكيف والمواءمة الخلاقة بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، المحلي والوافد، الخاص والعام على الرغم من كل المعيقات الطارئة المحبطة. ومع أني زرت مدينة جدة سابقا لمرات عديدة وفي مناسبات مختلفة، وكنت دائما أتلمس فيها حميمية وألفة المكان غير أنني أجد نفسي دائما في حاجة إلى زيارات أخرى لعلي استطيع أن أحيط بكل خزينها النفيس والمكتنز، وهنا عندما أذكر مدينة جدة لا أنسى أنها بوابة الحجاز المسكون بالدفء الروحي والأسرار والأوهام والشعر والصخب الهادئ.. كم شعرت بالصدمة أمام فاجعة الأربعاء ( الأسود ) في 25 نوفمبر الفائت التي ضربت جدة على حين غرة، واجتاحت السيول مناطق عدة فيها، مما أودى بحياة أكثر من مائة شخص، غير الجرحى والمفقودين والآلاف ( 2500 شخص ) من المشردين الذين تم إيواؤهم من قبل الحكومة في أماكن مؤقتة، ناهيك عن تدمير الممتلكات العامة ( جسور وطرق ومنشآت مختلفة ) والممتلكات الخاصة ( منازل وسيارات ومزارع ومحلات ).. «عروس البحر الأحمر » التي كانت تحاول جاهدة على مدى السنوات القليلة الماضية استعادة حيويتها وشبابها المفتقد، لبست سواد الحداد إثر تعرضها لموجة أمطار رعدية استمرت لبضع ساعات.. مصلحة الأرصاد كانت نائمة وغائبة تماما عن المشهد، رغم وجود الخبراء والمختصين وما تمتلكه من أجهزة تقنية متطورة كما هو مفترض، غير أنه يسجل لها قدرتها على تحديد كمية الأمطار المتساقطة بأنها لم تتجاوز 90 ملليمترا، وهي كمية تعتبر أقل من عادية في الكثير من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.. حالة الفزع التي ازدادت بين سكان شرق جدة بعد أن توقعت الأرصاد الجوية هطول المزيد من السيول على المدينة خلال الأيام المقبلة، بسبب احتمال فيضان بحيرة المسك للصرف الصحي التي تحتوي وفقا لبعض المصادر على 40 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي التي يتم شفطها من منازل جدة التي لم تصلها خدمات الصرف الصحي.. الجدير بالذكر أن الأمين الحالي المهندس عادل فقيه كان قد صرح أخيرا أن المشاريع الجاري تنفيذها وما اكتمل من مشاريع لدرء مخاطر السيول تغطي نحو 30 في المائة فقط من جدة، وهذا يعني أن هناك 70 في المائة من جدة بدون شبكات تصريف مجاري وأمطار.. كارثة جدة أماطت اللثام عن أوجه خطيرة للتسيب والتقصير والإهمال وسوء التخطيط، بل والخلل الإداري والمالي المعشش على مدى سنوات في بعض المرافق والأجهزة الحكومية ( التنفيذية والقضائية ) وفي القطاع الخاص، ودور بعض كبار الشخصيات المتنفذة في ذلك، والتي أمنت من المساءلة والمحاسبة ناهيك عن العقاب الرادع لها، رغم وجود الأنظمة والقوانين الزاجرة والرادعة.. وهو ما أثار غضب وحمية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان صريحا كعادته، بقوله حين أصدر قراراته في أعقاب الكارثة: «وإنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعا لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإرادة والسيطرة في حين أن هذه الفاجعة نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية».. مضيفا: «وإن من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم».. وقد تعهد في القرار الملكي «بمحاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم، تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة، والمسؤولية الملقاة عليه والثقة المناطة به». مضيفا: «أنه لا يمكن إغفال أن هناك أخطاء أو تقصيرا من بعض الجهات، ولدينا الشجاعة الكافية للإفصاح عن ذلك والتصدي له بكل حزم».. و إلى جانب التعويضات المالية العاجلة لذوي الضحايا أمر الملك بتشكيل لجنة تحقيق وتقصي الحقائق في أسباب هذه الفاجعة، وتحديد مسؤولية كل جهة حكومية أو أي شخص ذي علاقة بها ولها في ذلك اتخاذ جميع ما يلزم من إجراءات لتسهيل أداء عملها، وعلى اللجنة الرفع للملك عن أية جهة حكومية لا تلتزم بذلك، وللجنة كذلك استدعاء أي شخص أو مسؤول كائنا من كان بطلب إفادته، أو مساءلته.. عند الاقتضاء. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة