طافت أمس جموع حجاج من أقصى الأرض وأدناها بكعبة الله الحرام. غسلوا حولها خطاياهم بتكبير وابتهال وشربوا كأس زمزمها الأخيرة وللأبد، فكثيرون هم الغامسون لأرواحهم في روحانية مكة.. ولن يعودوا، فالحج عند المقبلين من بعيد هي فرصة عمر وحيدة لن تتكرر. فتح حجاج أجفانهم طويلا، وعلقوا أبصارهم على جدران الكعبة، واستودعوا أمنياتهم في صحن المطاف، وضربوا أجسادهم على أرض الحرم البيضاء، ومسحوا رؤوسهم بطيب جدار الكعبة وماء زمزم فمنهم من يرى أن في أعماقه ذنوبا ثقيلة ولا سبيل إلى محوها إلا هنا. أصوات بكاء ونحيب تختلط برجاءات الغفران في صحن الحرم. وجوه بيضاء وسمراء وحمراء تلتقي للمرة الأولى وتختم لقاءها هنا. سيل دموع يغرق الخدود واللحى. أدعية بكل لغات الأرض ولكناتها تتداخل حتى تكاد تصبح لغة واحدة. الحرم صار مسرحا لحلفة وداع أخيرة لزوار أطهر بقاع الأرض. ذكرى الليالي الماضية في وادي منى، وجوار جبل الرحمة، وفي فضاء مزدلفة تستحوذ على خيالات من ختم رحلة أيام الحج بالأمس، وفي يقين بعضهم أن ذكريات أمكنة غيرها لا تستحق أن تأخذ مكانا في دواخلهم. وبدا الحرم المكي ومحيطه أمس في حلة جديدة. ساحاته تتوسع في كل الجهات، مسعاه يستخدم كامل طاقته لخدمة الحجاج، ومشاريع حوله تطاول بعضها حتى السماء. تمدد عرض المسعى هذا العام فصار 40 مترا يرتفع إلى أربعة طوابق عبارة عن بدروم مخصص للعربات ودور أرضي ودورين أول وثان بطول 350 مترا ضخ لتطويره مبلغ 2.9 مليار ريال سعودي. ويغسل قرابة 2500 عامل باستخدام 300 آلية صحن الحرم أربع مرات على مدار الأربع والعشرين ساعة، أما ساحاته المحيطة فتنظف ثلاث مرات كل يوم مجدولة حسب أوقات الذروة. ولا تفرش السجادات الحمراء في المسجد الحرام خلال شهر ذي الحجة حرصا على سهولة الحركة داخل المسجد. وفتح الحرم أمس 155 بابا تؤدي إلى ساحاته وسطحه وقبوه وهذه الأبواب يتم فتحها جميعا خلال ذي الحجة ويعمل عليها أكثر من 700 موظف رسمي وموسمي وذلك لضمان بقائها مفتوحة على مدار الساعة، فيما يعمل على الأبواب المخصصة للنساء 391 مراقبة. وشرب الحجاج زمزم في رحلة وداعهم لمكة من 89 مشربية رخامية داخل المسجد الحرام بها قرابة 1100 صنبور، فيما وصل عدد حافظات ماء زمزم إلى أكثر من 7700 حافظة قابلة للزيادة عند دواعي الحاجة. لن يعرف أحد ماذا يعني أن تغادر مكة للمرة الأخيرة وأنت تجيء إليها لأول مرة إلا إذا كان جالسا في ساحات الحرم بالأمس، فمئات الآلاف ممن جاءوا هذا العام وأضعافهم ممن كانوا هنا قبل أعوام أخذوا كرت العبور إليها مختوما ب «مرة واحدة»، ولا سبيل للعودة إليها إلا بفرصة ثمينة تأتيهم من السماء. آخر لحظاتهم في مكة.. بكاء ونحيب وصدح بأدعية أماني أخيرة تسمع في صحن الطواف. حجاج يزحفون ببطء شديد. لا أحد يريد أن يغادر، يود أكثرهم أن يبقى فيها، أو يولد مرة أخرى على أرضها ثم يموت فيها..هكذا يقولون لكل من يسألهم.. فتذكار وصورة من مكة لا تكفي لإرواء شغفهم بها.