عرفات 1430.. الحجاج يرفعون أصوات الدعاء على صفحة أرضها منذ 1420 عاما. قرون مضت وهذه الأرض لم تسلب منها روحها، ولم يتغير بها سوى أعداد المتعبدين وحال الأرض التي تحملهم، كانوا بضعة آلاف والآن تضاعفوا مئات المرات، كتل بشرية تشكلت في ساحة مشعر عرفات في ساعات معدودة. تعبأت بهم الطرقات وظللتهم أغصان الأشجار والجسور الإسمنتية ورفعتهم صخور جبالها إلى السماء، هكذا بدا المنظر من مروحية القوات الجوية الملكية السعودية التي طافت ب «عكاظ» إحدى عشرة مرة على المصعد الطاهر. يبدو مشعر عرفات من ارتفاع 2000 قدم من سطح الأرض كوادٍ يسيل ماء أبيض وملونا. تظهر على جغرافيته الصخرية بقع بيضاء بلون إحرام الحجاج وأخرى ملونة بمظلاتهم وأعلامهم وحقائبهم. تنبثق سيارات الأمن من بين الزحام لتنظم حركة مئات الحافلات وعشرات آلاف الحجاج، أصوات ضيوف الرحمن لا تسمع من سماء عرفات، فأصوات محركات المروحية تفسد متعة الإنصات إليها.
رجال الأمن يعترضون طريق مخالفين لاتجاه السير إلى عرفات، فيضعون الحواجز ويتشابكون بالأيادي كجدار إسمنت في وجه مفترشي الطرقات، فهم لن يسمحوا ك «حراس لسكينة الحج» لخطأ بشري أن يحدث هناك. من السماء تظهر جماعات من الحجاج تسير على أقدامها، بعضهم يعرقل حركة الباقين بشق الحشود من اليمين إلى اليسار ثم يعودون لعكس السير، وهؤلاء يخشاهم رجال الأمن دوما فصداع فوضاهم مؤلم. فوق جبل الرحمة شاخص طويل، وبياض يشبه الحليب مسكوب على رقائق الذرة. هذا اللون النقي يمثله حجاج يستجمعون قواهم ويصعدون الجبل لغسل قلوبهم وإرسال دعواتهم من هناك. من السماء يمكنك أن تتمتع بالنظر إلى خارطة العالم على مساحة 11 كيلو مترا مربعا فقط وبلا حدود، فعلى أرضها تنتشر جميع سحنات العالم وجنسياته ممن كان مسلما بأعلام حمراء وخضراء وبيضاء بعضها يشد بعض. سكان دول مختلفة يقفون صفا صفا بلا حد أو بحر. خلافات بعضهم كانت حديث صحف إلى أيام قليلة مضت، أما الآن فصوت التلبية أسكتها وصار أصدحها: فهذا دعاء وحدة المسلمين كل عام. عندما تتحدث إلى قائد المروحية التي كشفت عرفات بأكملها ل «عكاظ»، تشعر أنك تسرق منه اهتمامه وهو منهمك بمراقبة الحجاج وإرسال تحليلات الرؤية الجوية للأرض إلى مركز العمليات. يقود الرائد طيار عاطف الشهري بمساعدة زميله النقيب طيار ثامر الرزقان طائرة عمودية ويطوفان بها على المشاعر خمس مرات كل يوم في موسم الحج. أمامهما لوحة قيادة بها مائة مفتاح ومفتاح. يطيران بخفة، ويتحدثان إليك عبر سماعات التحادث بهدوء. يعتقد الشهري أن كثافة حجاج هذا العام ليست كما كانت في الأعوام الماضية فهي أقل بكثير بحسب رؤيته للموقف من السماء. إلا أن دقة التنظيم المروري وانسيابية حركة السير والتفويج لفتت انتباهه وهو يجلس على مقعد مروحيته العمودية. أمس كان يوم خميس، وهو اليوم الذي ترفع فيه أعمال الناس إلى ربهم، كما جاء بذلك حديث نبوي صحيح عن آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مواعد مراجعة للنفس لأولئك الخاشعة قلوبهم، الدامعة أعينهم ممن كانوا معلقين بجبل الرحمة وواقفين على أبواب مسجد نمرة. الحجاج في عرفات هم أكثر من يطلب العفو والرحمة.. تنعكس رهبتهم وخوفهم على تجمعاتهم في وسط المشعر وأطرافه التي تبدو ساكنة بلا حراك من السماء، فهم يطلبون رحمة ربهم ويلحون في طلب مغفرته من هذا الوادي الحرام.