الغضب يمثل واحدة من الغرائز الإنسانية المستقرة، ولهذه الغريزة محفزات ومهدئات، ولكنها تظل جزءا أساسيا من تكوين الإنسان، غير أن تحويل الغضب الفردي أو الجماعي إلى صناعة لها شروطها وطرائقها أمر أكبر بكثير من الغضب الغريزي الطبيعي، فهذه الصناعة قادرة على تحريك أقسى المشاعر الإنسانية، ودفعها لنوع مفخخ في التفكير ومشتعل في التخطيط ومتفجر في التنفيذ. الخطاب العربي والإسلامي المقاوم للاستعمار كان شديد الغضب، وبعد التخلص من الاستعمار بشق الأنفس، خلف ذلك الخطاب تركة من الغضب تنظيريا وواقعيا، تمثل في حركات وجماعات وأحزاب وأفراد، يردون على الغضب فرادى ويصدرون عنه شتى، ولنا هنا أن نتحدث عن تمثلات عدة للغضب، منها التمثل الشيوعي أو التمثل اليساري عموما، ومنها التمثلات القومية كالناصرية والبعثية ونحوها، كما كان في تلك التركة تمثل أكثر خطرا هو التمل الديني أو الغضب الديني والإسلامي الذي تجلى في كتابات عديد من الرموز الغاضبة كأبي الأعلى المودودي وسيد قطب ومن بعدهم زرافات من الرموز والحركات والأحزاب الغضبية، التي تجعل الإسلام والدين متكأ لغضبها، تنطلق منه غاضبة وتعود إليه باحثة عن المزيد من الغضب، وتمارس في المنتصف عمليات التجنيد والتجييش والتعبئة. مع الجماعات الإسلامية تخلى الغضب عن طبيعته الفطرية وتم تحويله إلى صناعة متقنة عبر وسائل عدة وأدوات متظافرة، وقد كان لصناعة الغضب نصر مبين في أحراش الحركات الإسلامية على غيره من الصناعات، وصار له القدح المعلى وقصب السبق. لقد تم تحويل الغضب إلى صناعة عبر عديد من الطروحات والمفاهيم والبحوث والدراسات والكتب، ومن تلك المفاهيم –على سبيل المثال- نظرية المؤامرة الغربية، ونظرية تواطؤ الحكومات القائمة مع هذه المؤامرة، وتضخيم خطاب الهوية، والتركيز على الماضي وأمجاده والغضب لفقدانه، مع رسم الماضي كحلم وخيالٍ يجعله مثالا ورسم الواقع كنقيض للماضي، ما يجعل هذا التناقض مثيرا للغضب والكراهية، وتكفي الإشارة هنا لبعض عناوين الكتب المعبرة في هذا السياق كالكتاب الذي تم ترويجه بكثافة "دمروا الإسلام وأبيدوا أهله». غير المفاهيم والكتب التي تدل على صناعة الغضب فثمة عبارات لرموز التيار الإسلامي تحث على الغضب بل وعلى السخط وهو مرتبة عالية من الغضب، وها هو سيد قطب ينشر مقالة له بعنوان: «مدارس للسخط» في مجلة الرسالة العدد 651 بتاريخ 30 سبتمبر 1946م يقول فيها: "أما أنا فسأظل ساخطا» و«إنه لو وكل إلي الأمر لأنشأت ضعف هذه المدارس التي تنشئها الدولة لأعلم فيها الشعب شيئا واحدا هو السخط.. لو وكل إلي الأمر لأنشأت مدرسة للسخط على هذا الجيل من رجال السياسة.. ومدرسة للسخط على أولئك الكتاب والصحفيين الذين يقال عنهم إنهم قادة الرأي في البلاد وإنهم آباء الشعب الروحيين.. ومدرسة للسخط على أولئك الوزراء .. ومدرسة للسخط على أولئك الباشوات وغير الباشوات.. ومدرسة للسخط على أولئك (الأرستقراط) الذين يعلمون من هم.. ومدرسة للسخط على محطة الإذاعة.. ومدرسة للسخط على تلك الصحافة الداعرة التي تسمي نفسها (صحافة ناجحة).. وأخيرا مدرسة للسخط على هذا الشعب الذي يسمح بكل هذه (المساخر) ويتقبل كل تلك الأوضاع دون أن ينتفض فينبذ هؤلاء وأولئك جميعا». بهذه العبارات الصادمة يكفينا سيد قطب عن غيره في التعبير عن حالة الغضب التي تتلبس جماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف، ونلاحظ هنا أنه في بداية المقال أراد إنشاء مدارس لتعليم الشعب السخط، ثم لم يلبث أن عاد بسخطه على الشعب نفسه وأراد إنشاء مدارس لتعليم الشعب السخط على نفسه!. كما نجد الشيء ذاته لدى جهيمان العتيبي الذي يوافق هذا الوقت مرور ثلاثين عاما على حركته المشؤومة باقتحام الحرم المكي، فهو يقول في قصيدة عامية له: «ومن بعدها لابد لنا نشعل النار/ ما تظهر السنة طيور الخشاشي. إلا الذي دايم على الدين صبار/ وإذا (غضب) يغدي لوجهه تواشي». رسائل جهيمان العتيبي ص195. «في عام 1996م أعلن بن لادن الحرب على أمريكا من أفغانستان.. وكان من الصعب على دانيال كولمان -ضابط الإف بي آي الأمريكية والمختص بقضايا الإرهاب- أن يستوعب مدى الغضب الذي يشعر به بن لادن فكان يتساءل في قرارة نفسه: ماذا فعلنا له؟» كتاب «البروج المشيدة: القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر» ص17. كان في العراق تنظيم يسمى «سرايا الغضب الإسلامي» وانضم لاحقا لتنظيم القاعدة في العراق، ولقد أحسن في هذا السياق الباحث المتخصص في الجماعات الإسلامية رفعت سيد أحمد حين سمى أحد كتبه «تنظيمات العنف الإسلامي»، وكتب برنارد لويس مقالة في 1990م أسماها «جذور الغضب الإسلامي»، وكتب أيضا الباحث معتز الخطيب كتابا أسماه «الغضب الإسلامي.. تفكيك العنف». ليست صناعة الغضب محصورة في جماعات الإسلام السياسي أو الجماعات العنفية السنية فحسب، بل لدى الجماعات الدينية الشيعية السياسية والعنفية نفس الصناعة وذات المنتجات وإن اختلفت في بعض التفاصيل لا أقل ولا أكثر. تثبت الدراسات المعاصرة أن الإنسان الغاضب ليس إنسانا سويا، بمعنى أنه لا ينطلق في تفكيره وأفعاله من المنطق والعقل بل من قوة شعورية طاغية يمثلها الغضب، وكما ترى الباحثة حنة أرندت ف«أن يكون العنف أمرا ينتج عن الغضب مسألة يتفق عليها الجميع، ومن شأن الغضب –حقا- أن يكون لا عقلانيا ومرضيا» كتابها «في العنف» ص56. لهذا ليس غريبا أن تتبنى جماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف هذه الغريزة الغضبية لتوجهها لخدمة مصالحها وأهدافها كما جرى مع الجماعات العنفية في مصر والجزائر والسعودية وغيرها، وليس غريبا أيضا أن تحول تلك الجماعات هذه الغريزة إلى صناعة لها أصولها وفروعها، ولها نظامها، كما لها طرائقها ووسائلها المختلفة والمتباينة، وأن تبني خطابا كاملا ينطلق من هذه الصناعة ويبقي جذوتها متقدة وآلياتها فاعلة حتى تستغلها كيفما شاءت. كما تقدم فإن مزاعم مثل: مؤامرات الغرب، وتواطؤ الأنظمة الإسلامية معها، ومظاهر الفساد والاستئثار، وكل خللٍ سياسيٍ، أو توجه فكريٍ مخالف يتم تجييرها لبناء هذه المنظومة الغضبية التي تخدم صناعها والراعين لها، كما أن رفع شعار عدم تطبيق الشريعة وانتشار الأنظمة التي يسمونها بالوضعية، والعلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الغرب المتحضر كلها توضع كمحفزات أساسية في هذه الصناعة. حين تستطيع هذه الجماعات صناعة إنسانٍ غاضب تم حقنه بجرعات الغضب حتى ارتوى، فإنهم يملكون قنبلة قابلة للتفجير في أي حينٍ، وهو ما يجعل من هؤلاء الأتباع جيشا لجبا إن ظل صامتا لبرهة من الدهر، فذلك لأن قياداته ترفض «الاستعجال» حتى يتسنى لها «التمكين»، لذا فهم يتجافون عن «مفرقعات الغضب» غير المرسومة والمكتملة، حتى يحشدوها جميعا ليوم معلوم ينتظرونه ويسعون إليه جهدهم. إن القضاء على صناعة الغضب والكراهية وترسيخ صناعة التعايش والتسامح مهمة ملحة وصعبة ولكنها ليست مستحيلة، وطريق الإصلاح شائك وعسير ولكنه لازم وعاجل. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 250 مسافة ثم الرسالة