من لا يعرف قيمة الوقت ولا العمل ولا الانشغال بالمفيد يقال عنه باللغة الدارجة «الفاضي يعمل قاضي» وهو صحيح مجرب. خلو العقل من العلم والأدب والقدرة على الإنتاج يجعل صاحبه عاجزا عن أن ينضح ما بداخله، فلا يجد إلا ما يتلقفه ممن حوله فيدخر بعضه في حلقه لمستقبله وبعضه في لسانه ليعيده إليهم في يومه. الذين يلوكون أصداء الأخبار ويتصدون بالتحليل والتفسير وما يتيسر لهم من إضافات (وما آفة الأخبار إلا رواتها)، هؤلاء يراهم أمثالهم في مقام أصحاب الحجج والمراجع وحتى في مصاف أهل العلم والأدب، كما يرون هم أنفسهم، فالطيور على أشباهها تقع. وعندما يكون المتحدث منهم في جماعة تناسبه من ذوي القربى والرحم، أو من الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء والزملاء، تتحول رواياته وتفاسيره إلى حقائق ومسلمات وينمو حجمها وتتفرع منها أمور، حتى يصير يومهم أو ليلتهم بداية لفترة لا يعلم طولها إلا الله وحده، يعاد فيها الكلام والإفراط والتفريط، ليكون لهم جميعا عن كل حادثة أو موضوع أسابيع أو أشهر من السمر والجدل واللمز، فلا ينقطع اجترارهم لأسماء وصفات وأفعال وكلمات الآخرين، ولا ينتهي انشغالهم اليومي وحماسهم فيما يحسونه «تدبيرا» و «تأويلا» ضروريا لمجريات الحياة من حولهم، فيكونون كأنهم قضاة في شؤون غيرهم. أحيانا أقول إنه شفقة بجماهير الفراغ المتحمسين بنصح غيرهم علي أن أخبرهم بحدث يتداولونه ، أو بلغتهم: لا بد من (هرجة) أتسبب فيها كل بضعة أشهر فأشغلهم وأحقق هوايتهم فلا تذهب أوقاتهم «سدى». ثم أتذكر، وأعود فأقول إنهم مستغنون عن طلقة انطلاق أضعها أو غيري في أسماعهم، فطرح خبر وموضوع للبحث والتعليق لا يستعصي عليهم وإن لم يحدث شيء حقيقي صحيح للكلام! وقد جربت هذا بنفسي مرارا، وكنت في الماضي أغضب لما يقال عني فلما عرفت من عرفت، تحولت مشاعري إلى الإحساس بشهادة الكمال! ولمن يريد التفرغ للإنتاج والعلم والأدب وللنصح لأمثاله ومن أمثاله، وتضعه الجماهير موضع «البحث» و «التحليل» وتخرج باستنتاجات وقرارات وقناعات وأخبار، فليقرأ بصمت وطمأنينة قول المتنبي الصحيح: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم فارس محمد عمر