قد يبدو الخبر المنشور أمس الأول في جريدة «عكاظ» خبرا خرج عن إطار المستحيل واللامعقول والنادر إلى عادة نسمعها كثيرا ونقرأها كثيرا ونهز رؤوسنا بعد سماع الخبر قائلين: «الله يعينهم ها المساكين تغربوا بسبب الفقر فوجوده ينتظرهم في الشركات». يقول الخبر المنشور في "عكاظ" يوم الاثنين الماضي: «أصر نحو 250 عاملا من سبع جنسيات على عدم مغادرة مكتب مدير مكتب العمل والعمال في جدة، قبل النظر في شكواهم ضد إحدى الشركات»، وكانت مشكلتهم تأخر صرف رواتبهم الشهرية؛ فالشركة امتنعت عن صرف رواتبهم منذ أربعة أشهر. في نفس الخبر، يوضح مدير المكتب قصي فلالي أن قضية العمال قيد الدراسة، وأن مكتب العمل سيتخذ الإجراءات اللازمة تجاه ما حصل لهؤلاء العمال. ومع احترامي الشديد لمكاتب العمل، فأنا يمكن لي تقبل فكرة «قيد الدراسة» التي ذكرها مدير مكتب العمل والعمال، لو أن القضية جديدة ولأول مرة تحدث في السعودية، فما يحدث أول مرة يمكن له أن يربك أية مؤسسة أو أي إنسان، فالتجربة الأولى لها سلطتها على تشتيت الإنسان والمؤسسة، فيحتاج الأمر لوقت، ليعيد الإنسان أو المؤسسة توازنه ويفكر بالقرار الحكيم، بيد أن هذه القضية كل مرة تخرج لنا رأسها، فأول مرة عشت هذه القضية وتأثرت فيها كنت أسكن في جدة أواخر الثمانينيات الميلادية، وكانت شركة النظافة قد تأخرت في دفع الرواتب أكثر من 9 أشهر -إن لم تخني الذاكرة- فأضرب العمال وتكدست أكياس القمامة أمام البيوت وفي الحاويات، ثم عادت لتظهر في الرياض والدمام وباقي المدن إلى أن أصبح هذا الخبر عادة لا يثير دهشة المواطن، فيردد «الله يعينهم ها المساكين». قلت: يمكن لي تقبل فكرة «قيد الدراسة» لو أن القضية جديدة، لكنها لم تعد كذلك، وكان من المفترض أن يكون هناك قانون يعاقب تلك الشركات التي تمتنع عن دفع مرتبات العاملين، ولو أدى القانون لإغلاق الشركة وحجر أموال أصحاب الشركة وبيعها في المزاد العلني وصرف رواتب ومستحقات العاملين كاملة. فالقضية هنا ليست تحقيق العدل لذاك العامل، ولا هي سمعة بلد سيتم تشويهها من قبل هذه الشركة التي ستجبر العمال الأجانب على عمل دعاية سلبية عن البلد بأن السعوديين لا يلتزمون بعهودهم فقط. فالقضية أعقد من ذلك بكثير، فإن لا تصرف مرتبات للعمال لعدة أشهر، هذا يعني أنك تدفعه لأن يسرق بيوت المواطنين وسياراتهم ليعيش، فهو يحتاج مالا ليعيش، يحتاج أن يرسل أموالا لأسرته الفقيرة التي تقاوم الموت جوعا. بقي أن أقول: إن ارتفعت نسبة الجريمة في السنوات الأخيرة، التي بدأ يتذمر منها المواطنون وثار ضدها الكثير من الكتاب على العمالة الأجنبية، لا يتحمل مسؤوليتها العمالة الأجنبية وحدهم، فمن يتحمل النسبة الأكبر تلك الشركات التي تريد أن تحقق أرباحا أكثر دون أن تكترث لما يحدث للمجتمع، فهي تترك العمال بلا رواتب لعدة أشهر، لتساومه فيما بعد بالتخلي عن بعض رواتبه إن أراد السفر نهائيا، فتدفع ذاك العامل للجريمة، لأنه يريد أن ينتقم لما حدث له، يريد أن يعيش، يريد أن يرسل جزءا من راتبه لأسرته التي تبحث عن رغيف، رغيف فقط.