يحتدم الغضب لسبب ولغير سبب، ويتحول في نفوس مريضة إلى كراهية وحقد؛ يعيش عليه المرء طيلة عمره، يجتره اجترارا ، ويبدئ فيه ويعيد، ويحطب على ناره حتى لا ينطفئ، ولعل الاصطفافات المدرسية والحزبية والتنظيمية الواعية وغير الواعية هي البيئة المثلى لنشوء مثل هذه المشاعر السلبية وتغذيتها، ولاستقبال الناس المسكونين بها، لينضموا إلى نظرائهم، ويظفروا بمجالس أو مواقع إلكترونية أو وسائل إعلامية تعتمد على الشتيمة والإزراء والاحتقار للآخرين، وضمن ذلك التزكية المطلقة للنفس والاجتهاد والأشخاص الموافقين، وإن لم ينطق بذلك اللسان. وشر ما يبتلى به المرء اللجاج في الخصومة، حتى يعمى عن عيب النفس، ويغفل عن صوابات الآخرين؛ ليصبح لسانه كجهاز التسجيل؛ يردد كلاما مكررا، لا يخضع للنقد والتفكيك ؛لأنه مبني على غير أساس، وتفكيكه يعني انهياره، والحجة هنا لا تخاطب المنطق ولا تحترم العقل، ولكنها تستثير العصبية، وتحفز على القطيعة، وتكرس سوء الظن. (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهِد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) (البقرة:204). قال ابن عباس: هو ذو الجدال، إذا كلمك وراجعك.. وقال الحسن البصري: هو الكاذب في قوله.. وقد يتلبس بهذا نوع غيرة جاهلة؛ تجعل صاحبها يمعن في طريقه معتمدا على إحساس ذاتي داخلي بالإخلاص والولاء لقيمة شرعية أو أخلاقية. وهذا يقع بسبب فرط الاحتساب على الآخرين، ومحاصرتهم ومحاكمتهم، مع التسامح إزاء النفس، والغفلة عن منزلقاتها ومخادعتها وحيلها الخفية. قلت لأحدهم: أنت تهاجم فلانا بانتظام، وكأنك تنتظر أن يزل لتنازله، فقد أشهرت السيف وسننته، أفهذه الروح تسمح لك بحيادية تجاه الخطأ والصواب؟. ألم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخارى: « لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم وقولوا ( آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) »، وفي رواية في المسند حسن إسنادها ابن حجر (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق ». فإذا كان هذا بشأن روايات ماضية، لا يقوم عليها حكم شرعي؛ فكيف بآراء وأقوال وعبارات تحتمل الصواب، أو يكون فيها ما يشبه الصواب، أو يكون فيها قدر ولو قل مما يستفاد وينتفع. هذه الروح المتحفزة بالتخطئة والتسفيه تضرك أنت؛ لأنها تبني سورا على عقلك، يحرمك من الانتفاع بالآخرين، وربما لا تجد لدى موثوقيك إلا الكلام الذي هو عندك أنت، فلا جديد لديك إذا، أين الشمس التي لها كل يوم أفق جديد ؟. أين النهر الذي لا تنغمس في الدفقة الواحدة منه مرتين ؟. أين عبادة الله حتى يأتيك اليقين ؟!. أليس العلم هو لب العبادات وأولها، وأول ما خوطب به المكلفون (اقرأْ باسم ربك الذي خلق) (العلق:1) ؟. ثم هذا الإنسان الذي استحكمت بغضاؤه في قلبك؛ أسألك بمن خلق قلبك، وهو المطلع عليه، ألا يسرك أن يقع في فضيحة، أو تنشر عنه قالة سوء ؟. ما شعورك لو رأيت صورته على حال لاتحمد، لتكن صورة صادقة، وقد زلت به القدم، أو صورة مدبلجة مركبة أتقنتها آلة التقنية الماهرة، أتكون حزينا مكسوفا موجع القلب لأن مسلما عثر، أو اتهم بما هو منه براء، وتنبري للدفاع عنه وحماية عرضه؛ رجاء أن يذب الله عن وجهك النار يوم القيامة. أم ستجدها فرصة رائعة تهتبلها؛ لتؤكد أن ما كنت تقوله عنه صدق وصواب، وأنك تعلم من بواطن الأمور ما لا يعلم أولئك السذج الأغرار البلهاء ضعفاء الإيمان، الذين كانوا يعارضونك ويرفضون مسلكك، ويدافعون عن أخيهم المسلم ؟. ظني أنك غالبا ستقع في الدائرة الأخرى، وإن اختلطت مشاعرك؛ فسينتصر شعور الغبطة والشماتة.. وكأنك أنت المعصوم!. وقد جربت هذا غير مرة في قراءتي لأحداث جرت من حولي؛ فوجدت أن من يلح على إيذاء الناس وبهتهم والوقيعة فيهم؛ لا يطول به وقت حتى يقع له ما يوجب أن يتسلط عليه بعض من حوله، ويفعلون فيه نظير ما فعل هو بغيره (وما ربك بظلام للعبيد) (فصلت: من الآية46)، والجزاء من جنس العمل، ولعل مما يحسن أن يقال هنا أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال الخطيب البغدادي: (ما جوهد الهوى بمثل الرأي، ولا استنبط الرأي بمثل المشورة، ولا حفظت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر، وما استنجحت الأمور بمثل الصبر). وهذا النظر مدعاة إلى أن يرتدع العاقل عن التسرع والإلحاح في سلخ جلود الآخرين، وأن يدع لحسن الظن موضعا، وللصلح موضعا آخر، وللمروءة والأخلاق موضعا ثالثا، ويفسح المجال لخط رجعة يخصه هو، إذ قد يجد نفسه بعد حين منحازا لرأي كان يعارضه ولا تثريب في ذلك، فقد كان سيد ولد آدم يدعو ب « يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك » و «اللهم مصرف الْقلوب صرف قلوبنا على طاعتك » كما في صحيح مسلم، ولكنه لم يدع قط بأن يثبت الله قلبه على رأيه، بل كان يقول: « وإنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» متفق عليه، من حديث أبي موسى رضي الله عنه. ومشكلة فئة من الأخوة أنهم لا يفرقون في قضية «المنهج» بين المسلمات الشرعية والكليات الأصلية، وبين مسائل الاجتهاد والاختلاف والرأي، وهم حين يقبلون شخصا ما يقبلونه بمسائل الفروع قبل الأصول، وبالجزئيات قبل الكليات، ولذا لا يلحظون ثباته على المبادئ الأساسية التي هي المنهج بقدر ما يلحظون أنه غير اجتهاده في موقف سياسي، أو اجتهاد فقهي، أو رأي حياتي، أو مسلك دعوي. فاللهم اهدنا إلى سواء السبيل، وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، واعصمنا أن نظن بمسلم ظن سوء، أو نتمنى له غير الخير، أو نرد منه حقا لعصبية، أو نقبل منه خطأ بعصبية، أو نشمت به أو نفرح عليه بقالة سوء، أو نقول عنه ما ليس لنا به علم، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة