لن يهدأ التطوير، والتاريخ سيكتب صفحة جديدة على أرض ثول مطرزة بأمواج المجد ومعامل العلم. القرية الوادعة تحولت إلى أشبه بخلية نحل عالمية، ووجوه من أقصى الأرض اجتمعت لتكون شاهدة على الحلم. ركض في كل الاتجاهات فلم يتبق من الوقت إلا 24 ساعة ليقف ملك صناعة المعرفة عبد الله بن عبد العزيز وقادة 40 دولة شهودا على الطفرة المعرفية بعد أن قاد البلاد إلى طفرات في كل الاتجاهات. معامل النانو، معامل القرنية، وكمبيوتر شاهين، كلها على الأرض انتصبت وأخذت مكانها وعقول الباحثين وقلوبهم تحلقت حول المكان. دهشة حقيقية تغشى جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (بيت الحكمة)، والجميع يعملون في منظومة متناغمة ساعات طويلة وإرهاق يلاحقهم، إلا أن الابتسامة سيدة الموقف. المشهد هنا، فرحة غفيرة، ترقب تتراقص معه القلوب، نخيل يقف في اتساق والتناسق والجمال.الجامعة وعلماؤها وموظفوها الساهرون لإخراج حفل الافتتاح في أبهى الحلل يضعون أيديهم على قلوبهم رغم اكتمال كل شيء، فالعالم بأسره ينتظر طفرة السعوديين المعرفية. وفي رحلة من جدة إلى ثول ظاهرها كانت ل20 صحافيا، جولة لإطلاع الإعلاميين على جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية والوقوف على ترتيبات الحفل الرسمي. انطلقت الحافلة محملة بوجوه شبان وشابات سعوديين يشرحون بلغة إنجليزية رشيقة محطات الرحلة، بينما يتابع صحافيون أتوا من الأمريكيتين، أوروبا، وشرق آسيا بنهم المعلومات المنسابة من أفواه الواقفين مختتمين كل حديث بابتسامة عريضة. تصل الحافلة إلى عمق الجامعة وتبدأ رحلة من نوع آخر، أول تعابير الدهشة تخرج لا شعورياً من صحافية فرنسية: «ليست جامعة فحسب»، المكان يشبه آلة الزمان، إذ يشعر الدالف بأنه في زمن آخر غير الذي نعيشه.
تبدأ الجولة من بهو الجامعة المطل على البحر الأحمر يتحدث مسؤولو الجامعة عن المنظر الأخاذ للبحر الأحمر، الذي يحتوي شعابا مرجانية ستكون مدار البحث في الأيام المقبلة. وبدأت الجامعة ومعهد وودز هول لعلوم المحيطات دراسات وأبحاثا علمية في البحر الأحمر تشمل الجوانب الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والثروات والموارد الطبيعية للبحر الأحمر. وتشمل الدراسات إجراء رحلات بحرية علمية في البحر الأحمر على متن سفن بحثية لأخذ القياسات والعينات البحرية بأحدث الأجهزة العلمية. ينطلق المجتمعون إلى معمل القرنية للدخول إلى عالم آخر من الدهشة، فكل ما على المرء سوى الدخول إلى غرفة لا تتجاوز التسعة أمتار مربعة كي يسافر إلى أقصى الأرض ضمن واقع افتراضي فريد. قدم الباحثون النظارات الخاصة وارتدى الصحافيون أغطية لأحذيتهم ودخلوا إلى تجربة فريدة، فبعد أن تغلق الغرفة يتحول المكان إلى كهف في مدينة أثرية أردنية، وبإمكان الباحث بدل أن يسافر إلى هناك لإجراء الأبحاث الجيولوجية، فقط عليه أن يدخل إلى هذه الغرفة المبرمجة إلكترونيا بشريط ثلاثي الأبعاد للموقع. يخرج الصحافيون محملين بعلامات استفهام يلقون بها أمام الباحثين المنتظرين أي استفسار ليشرحوه مفصلا، ثم يواصلون الركض إلى شاشة ضخمة استقبلت للتو صورة لمتحف وطني في أمريكا، أرسلت من جامعة سانديقو، شاشة بعرض خمسة أمتار وبارتفاع ثلاثة أمتار عالية الوضوح، كانت تبدو وكأنها لمنظر طبيعي لا أكثر، وما هي إلا دقائق حتى قرب باحث الصورة حتى بلغت تفاصل الصخور التي في الجبل كي يجري الباحثون دراساتهم عليها، ولاحظ المجتمعون صورة متسلق للجبل ذاته زاد الحاضرين عجباً. تغيرت الصورة سريعا، اللقطة الجديدة لفيروسات متناهية الصغر قربت ملايين المرات، يجري الباحثون عليها دراساتهم، وكان آخر الأبحاث شمل فايروس انفلونزا الخنازير (H1 N1)، وفي لمح البصر تغيرت الصورة، وكانت هذه المرة مقطعا عرضيا لدماغ فأر مكبر آلالف المرات. وفي الجوار، شاشات أخرى بطريقة مكورة يطلق عليها الباحثون اسم «كهف نكس»، وعاد الصحافيون ليرتدوا النظارات الخاصة وهذه المرة طاروا فوق أجواء المملكة وتابعوا حركة الرياح، انتقلوا من أقصى عرعر، إلى أطراف جازان، ومن الخليج العربي إلى كورنيش جدة، بينما كانت تسير الرياح مميزة بعلامات ملونة على برنامج حاسوبي ضخم. ينظر الباحث البرفيسور هيلمت بوك مان المقبلين عليه بابتسامة كانت أشبه بمصافحة كسرت الحاجز مع المحتشدين حوله، وأخذ يستعرض نماذج معمارية بطريقة أبعاد ثلاثية، وكيف يمكن للباحثين للجامعة متابعة آخر المستجدات في علوم العمارة، أما المفاجأة التي كانت للحاضرين فهي الدخول إلى مبان بالأبعاد الثلاثية والتحليق فوقها بواقع افتراضي مدهش للحضور. قبل أن يلتقط الحاضرون أنفاسهم يتوجه الفريق إلى كمبيوتر شاهين الأكبر في الشرق الأوسط و14 على مستوى العالم، ويستطيع أن يجري ترليون معادلة في الثانية، ويسعى القائمون عليه إلى تطويره لتصل سرعته إلى كوندرليون (ألف ترليون) معادلة في الثانية، كما يجرون أبحاثا لتطويره إلى كونتليان (مليون ترليون) معادلة في الثانية. وتكمن الفائدة الأكبر من الحاسوب الضخم ربطه بمراكز الأبحاث العالمية وتسريع مشاريع الأبحاث، إذ يمكن له إجراء الأبحاث التي يقضي الباحثون فيها خمسة أيام، بإمكانه إنهاءها خلال خمس ساعات. في الدهاليز الأرضية يعم الهدوء، ولسان حال المكان يقول «سكوت تقنية النانو هنا»، غرف معقمة ونظيفة جدا، أجهزة رنين نووي تستطيع أخذ صور مقطعية للجدران والطبقات الأرضية، ومعامل تنتج دوائر إلكترونية متناهية الصغر، وربوتات مجهرية بإمكانها الدخول إلى جسم الإنسان وتصويره لتشخيص الأمراض وأخذ صور دقيقة للباحثين. خرج الصحافيون من الجامعة والعمل لا يهدأ فيها، بين يد تبني وأخرى تعمل بصمت وبقي الحفل الرسمي لانطلاق (بيت الحكمة) المفاجأة الأكبر التي ينتظرها الجميع.