لا يختلف أحد على أهمية الدعاء في شهر الصيام وفي العشر الأواخر منه على وجه الخصوص.. وليلة القدر لمن وفق لقيامها.. وما أحوجنا إلى الدعاء حاجة الظمآن أشد الظمأ للماء البارد.. وما أعظم المولى جل وعلا الذي وضع بين ثنايا آيات الصوم ذلك البيان المحكم بقرب البارئ من عباده قوله سبحانه وتعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (البقرة: 186). وما أجل قول الله سبحانه وتعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). (60) غافر، وما أحب قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (للصائم عند فطره دعوة لا ترد). لي تجربة ورحلة مع الدعاء منذ نعومة أظفاري أضعها بين يدي القراء لعلها تفيد في حفزنا على مزيد من الدعاء فيما تبقى لنا من شهرنا الكريم وما بعد الشهير الفضيل.. فقد كنا نعيش الدعاء في أيام رمضان في المسجد الحرام، وما أعظم دعاء الأئمة في أواخر شهر رمضان عندما يجأرون إلى الله في جوف الليل في أطهر البقاع عند البيت الحرام وحولك زمزم والمقام والحجر والحجاج والزوار والمعتمرون بكاء وتضرع ولجوء إلى الله تهتز له جبال مكة وشعابها فكيف بقلوب البشر ووجدانهم!، وكما صور لنا أحد الإخوة ذلك المشهد بأن تلك البقعة الطاهرة وذلك الجوار الرحب يكاد ينفصل عن الأرض بمن فيها ليلحق بالسماء ويرفرف من حول العرش. ومظهرا آخر من مظاهر الدعاء عشته صغيرا عندما كان أحد أجدادي يأخذنا معه إلى عرفات مع الحجاج، وكان مطوفا لفئات من الهند وباكستان وتركيا.. وكان يجمعهم بعد العصر ملبيا، داعيا الله، وهم يرددون من خلفه كلمات بسيطة في غاية البساطة، مفعمة بالحب لله، مليئة بالذلة له والإنابة إليه والخضوع له، والقلوب متفتحة والوجدان مشرق والدموع منهمرة والكل سواسية.. رحماك يا الله.. رحماك يا الله.. غفرانك.. غفرانك.. عفوك يا الله عفوك يا الله.. ما أعظمك يا ربنا ما أجلك.. ما أقدسك، ما أرحمك ما أعظم عفوك، ما أجل وأقدس تجاوزك.. يكرر علينا مثل هذه العبارات فتنهمر الدموع ويضطرب الوجدان، وربما أغشي على بعض الحجاج والحاجات من شدة الخشوع والضراعة إلى الله. ابتعثت بعد ذلك إلى ألمانيا وبفضل الله التقيت فيها بإخوة أخيار من بلادي وغيرها، فكنا نقيم الليل في الغربة في رمضان وغير رمضان أحيانا، نذهب به وحشة الغربة ووطأة البعد عن الأهل والأوطان وكنا نقنت في الوتر بالدعاء، في تلك الليالي تعلمت الدعاء.. إذ كان إخواني يقدمونني لأدعو بهم ولهم. والدعاء هبة من هبات الله ورزق من أرزاقه، والتفاعل مع الدعاء من أعظم ما يمن الله به على عباده فقد تسمع إماما يتغنى بالدعاء ولا يتأثر بدعائه المأمومون، وآخر يهدر بدعاء طويل عريض ولا أثر له، بينما تسمع الأدعية نفسها من إمام آخر فلا تتمالك نفسك ولا وجدانك ولا دموعك ولا قلبك، كلها تكون لله ومع الله. صدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: (الدعاء هو العبادة) وروي بلفظ (الدعاء مخ العبادة). وبعد عودتي من ألمانيا سعدت أيما سعادة بالدعاء مع الشيخ الخليفي رحمه الله إمام المسجد الحرام (ثم من بعده الشيخ السديس والشيخ الشريم).. الذي كان يدعو بدعاء حار وينطرح بين يدي الله في أيام رمضان عند ختمه للقرآن الكريم، وعشنا في الرياض لحظات مماثلة مع الشيخ العبيكان والشيخ عادل الكلباني وغيرهما.. وتأثرت بالدعاء وحفظت بفضل الله منه الكثير. وكان من أسعد لحظات حياتي عندما كلفت بفضل الله، ثم برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد العزيز آل سعود بمشروعات المشاعر المقدسة، وسنحت لي فرصة الحج كل عام.. كنت أدعو مع إخواني وأخواتي في عرفات والمشاعر دعاء قلبيا حارا نعمم بفضل الله به كل مسلم ومسلمة في الوجود كله، ونخصص به بعون الله الوالدين والأقربين والأزواج والذرية وذرية الذرية ومن له علينا حق ومن وصانا واستوصانا ونجتهد بفضل الله في ذلك أيما اجتهاد.. ويمكن أن يعبر الإنسان عن أنسه وإخوانه بالدعاء القلبي الحار الذي يتفاعل مع وجدانه وأحاسيسه، ويجد له طعما وحلاوة ومذاقا، وتستجيب له العيون بالدموع والقلب بالخضوع.. إن الذين يجدون المتعة في الحرام واللهو والمال والمتاع.. إلخ من شهوات الدنيا لو علموا السعادة التي نعيشها في مثل تلك اللحظات لجالدونا عليها بالسيوف.