مواجهة الأوبئة والتعامل معها علم له أصوله وقواعده المتفرعة من علوم (مواجهة الكوارث والأزمات). وبتفشي مرض انفلونزا الخنازير المتزايد في البلاد يتضح أننا لم نتعلم من التجربة المريرة التي مرت بها بلادنا منذ عدة سنوات عندما تفشى وباء (حمى الوادي المتصدع). ففي مواجهة تلك الأزمة قضينا أياما وأسابيع من الانتظار المضني للتعرف على المرض الذي وصف حينها ب(الغامض)، وبعثنا المبعوثين وانتدبنا المندوبين إلى معامل ومختبرات أوروبا وأمريكا الطبية لنتعرف على اسم الفيروس المسبب للوباء الذي عبر البحر وأتانا من القرن الأفريقي، والذي لم يكن مرضا جديدا أو غامضا حينها بل كان معروفا للعالم أجمع ولو تم سؤال أي صومالي أو جيبوتي لتعرف عليه على الفور. ولكن الافتقار إلى وجود (بنك أو مجمع) للفيروسات الوبائية وأنواعها وتحولاتها في المملكة في ذلك الحين ساهم في تفشي المرض وتسبب في تأخير عملية البدء في التعامل معه. والحقيقة التي لا ينساها المواطنون في هذه البلاد أن التدخل المباشر لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان حينها وليا للعهد كان حاسما وشجاعا (حد التهور) في نظر كثيرين عندما قرر مشاركة أهالي المنطقة الموبوءة مصيرهم بتحويل وجهة طائرته في رحلة العودة إلى العاصمة الرياض من مهمة خارجية نحو جازان التي اتخذ منها عاصمة مؤقّتة جمع فيها إلى جواره كافة الوزراء وأركان الحكومة، ولم يغادرها حتى تأكد أن الأوضاع استتبت والوباء أصبح تحت السيطرة. واليوم ومع تفشي وباء انفلونزا الخنازير وما يصاحبه من جهود تبذلها وزارة الصحة وما تتبعه من خطوات وإجراءات لمواجهته، نجد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يتدخل مرة أخرى وبنفس القوة والشجاعة ويصدر توجيهه إلى كافة المستشفيات الحكومية والخاصة في المملكة العربية السعودية بمعالجة حالات انفلونزا الخنازير للمرضى من المواطنين والمقيمين والمعتمرين وتقديم الرعاية الصحية اللازمة لهم على نفقة الدولة. ولكن ما أن فرح المواطنون بالتوجيه الملكي الكريم حتى صدموا برفض كافة المستشفيات (الخاصة) في جدة وفي غيرها من مدن المملكة استقبال المشتبه بإصابتهم بالمرض بحجة (عدم توفر التحاليل المخبرية). وكنت طوال الوقت أظن أن المستشفيات الخاصة تتذرع بهذه الحجة للتخلص من تبعات استقبال مثل هذه الحالات الوبائية التي شهدت معاناة بعض جيراني من تبعاتها. ولكن تغيرت نظرتي للأمر عندما قرأت تصريحا لوكيل وزارة الصحة للطب الوقائي نشرته «عكاظ» يوم الأربعاء الماضي (28/8/1430ه) استشفيت من خلاله أن المستشفيات الخاصة ممنوعة من إجراء اختبارات وتحاليل لهذا المرض (وعن منع إجراء التحاليل في المستشفيات الخاصة، قال إنه تم بناء على قواعد علمية، لأن منظمة الصحة العالمية أقرت إجراء الفحوصات في مختبرات مركزية مجهزه بأجهزة حديثة وأخصائيين مدربين، حتى لا تكون هناك تحاليل مشكوك في صحتها). ورغم ذلك أشار الوكيل إلى أن الخطابات أرسلت من مكتب الوزير إلى جميع القطاعات الصحية في المملكة، والقرار واضح ويجب على المستشفيات تعميمه على جميع أقسامها وإداراتها لاستقبال الحالات المشتبه بها أو المصابة لعلاجها مجانا. وأضاف (لا عذر لأي مستشفى خاص يرفض استقبال المرضى بحجة عدم توفر التحاليل المخبرية، حيث إن بإمكانه إرسال التحاليل إلى المختبرات الإقليمية الحكومية). ولفت إلى أن وزارة الصحة بدأت بإجراء تحاليل انفلونزا الخنازير في ثلاثة مختبرات. والآن تجرى في 13 مختبرا تشمل (مختبرات الوزارة، مستشفى الحرس الوطني، مستشفى الملك فيصل التخصصي، المستشفى العسكري، والمستشفى الجامعي). وبالفعل فقد اتضح أن جدة كلها تعتمد على مركز واحد في مستشفى جامعة الملك عبد العزيز لإجراء التحاليل لهذا الوباء، أما المستشفيات الأخرى التي ذكرها وكيل الوزارة في تصريحه فهي مجرد مراكز تجميع للعينات تمهيدا لإرسالها إلى ذلك المختبر المركزي وعلى المريض الانتظار فيما بين أسبوع إلى ثلاثة أسابيع للتأكد من نتيجة الاختبار. فهل يريد وكيل الوزارة أن يخبرنا أن على المستشفى الحكومي أو الخاص أن يستقبل المشتبه بإصابتهم أسبوعا على الأقل للتأكد من سلامته؟ وهل يظن المسؤولون في وزارة الصحة أن المستشفيات قادرة على تكديس عشرات المشتبه بإصابتهم في غرفها وعنابرها ودهاليزها لتنتقل العدوى من المريض إلى السليم بانتظار نتائج التحليل المخبرية المركزية التي (وافقت عليها منظمة الصحة العالمية)؟. وفي مواجهة مثل هذه الآلية المتخلفة لم تجد وزارة الصحة بدا من التعامل بواقعية مع المرض بالتأكيد على الجهات المعالجة بالبدء بإعطاء العلاج المضاد لفيروس (إتش1إن1) (بدون انتظار نتائج الفحص المخبري) و(حسب تقييم الطبيب المعالج وبناء على المعايير السريرية والعلمية). لتجد كافة المستشفيات سواء منها الحكومية أو الأهلية طوق نجاة في هذه التوجيهات ليلجأ بعضها للتذرع بعدم توفر العلاج اللازم، وليلجأ البعض الآخر إلى التوسع في صرف الدواء لمن يحتاجه ومن لا يحتاجه رغم أن الفئات الأكثر عرضة للمرض حسب موقع الوزارة على الشبكة تشمل (ذوو الأمراض المزمنة الرئوية أو القلبية أو الكبدية او مرضى الكلى المزمن أو مرضى الأعصاب المزمن مرض نقص المناعة بسبب علاج أو مرض أولي مرضى السكري الذين لديهم مضاعفات والسمنة والأمراض الاستقلابية والنساء الحوامل الذين تظهر عليهم أعراض وعلامات الانفلونزا مثل ارتفاع درجة الحرارة أكثر من 38 درجة مئوية وآلام والتهاب في الحلق وسعال.. إلخ) وهل هؤلاء قادرين على استيعاب مزيد من الأدوية التي قد لا يحتاجون إليها وقد لا يسلمون من مضاعفاتها الجانبية أو تضاربها مع قائمة العلاجات التي يستخدمونها حاليا؟. إن عدم توفر المختبرات الكافية لا يبرر اللجوء إلى أساليب مشكوك بفعاليتها لمواجهة الوباء، وبالتالي لا بد من إعادة النظر في المدخل الذي تتبعه الوزارة حاليا في التعامل مع المرض ويجب أن تكون البداية في إعداد خطة طوارئ شاملة للتعامل مع الأوبئة والحد من انتشارها. ويجب أن تستند هذه الخطة على مركزية الإعداد والإشراف والمراقبة ولا مركزية التنفيذ، بمعنى أن الوزارة يجب تتعامل مع كافة المستشفيات والمختبرات المعتمدة في البلاد بصفتها جزء لا يتجزأ من الشبكة الصحية المتكاملة، فتمكنها من عمل التحاليل واختبار العينات والفحوصات بشكل متكامل ومأمون وفق آلية واضحة وتمويل فعال. وبدلا من تعطيلها ومنعها وسحب صلاحياتها كان من الأجدى أن تزود بالعينات والأدوات والخبرات الفنية اللازمة لأداء عملها. كما أنه في حالات الطوارئ الوبائية لا بد من توزيع فرق طبية مدربة في التعامل مع المرض على كافة المستشفيات الحكومية والخاصة على أن تعطى الأولوية لتلك المكتظة بالمراجعين مثل مستشفى الملك فهد بجدة والشميسي بالرياض للتأكد من أن الجميع يستقبل ويعامل المعاملة الإنسانية اللائقة. وفي نطاق تلك الخطة لا بد أن يتوفر لدى الوزارة أسطول من العيادات والمختبرات الطبية المحمولة على عربات وشاحنات بحيث توزع في الأحياء والمدارس والمجمعات التجارية والمطارات والمناطق النائية للتعامل مع الوباء بفعالية ومهنية في مواقعه حتى تمكن السيطرة عليه في أضيق نطاق. وكل هذا لا يعني عدم تقديرنا للجهود المضنية التي تبذلها وزارة الصحة التي نجحت حتى الآن في علاج معظم المصابين بهذا الوباء، ولكننا نطمح لرؤية مزيد من الإجراءات لمنع انتشار الوباء ولرؤية هذه الوزارة المهمة بقيادتها الواعية الجديدة في وضع يمكنها من تقديم رعاية صحية متكاملة لا تقل عن تلك التي نراها في الدول الأخرى، فالمرتبة السادسة والعشرون التي نحتلها الآن على المستوى العالمي في الرعاية الصحية يمكن تعزيزها بالتخطيط المناسب مع توفر الموارد المالية الكافية إلى مواقع أفضل، ولكن المدخل المركزي في التنفيذ الذي بدأت الوزارة في اللجوء إليه لا يمكن أن يقود إلى وضع أفضل، لأن المملكة دولة كبيرة مترامية الأطراف تحتاج إلى (لا مركزية) متناهية في الرعاية الصحية مع الاحتفاظ بأدوات إشراف ومراقبة فعالة على مستوى (المناطق) وعلى المستوى المركزي. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة