استكمالا للحديث السابق المعنون ب «التغير في مفهوم الأسرة» والذي اختتمته بدعوة إلى مفهوم جديد للأبوة خارج نطاق الامتلاك، مفهوم قادر على الجمع بين إعطاء الحرية لأبنائنا باعتبارهم كائنات كاملة ومستقلة وبين تعليم أبنائنا المسؤولية عن اتخاذ قراراتهم ومسؤولياتهم الشخصية في الاستجابة لمتطلباتهم العادية والبسيطة في إطار ممكناتهم. أود الحديث عن الوضع الحالي لأبنائنا والذي يمثل حالات من التناقض والازدواج في أفكارهم وسلوكياتهم الناتجة بالأساس عن المفهوم السائد لحالة الامتلاك. وعند الحديث عن الأبناء والبنات هنا، فالحديث يدور حول المجتمع ككل لسبب بسيط وواضح جدا هو أن غالبية مجتمعنا هم من الشباب «أكثر من 60 في المائة من شعبنا هم أقل من 25 سنة» أي أنهم الأغلبية المغيبة، هذه الأغلبية مطلوب منها أن تخضع وتنفذ أوامر الأقلية وتفرض عليها قيم التعصب والانتماءات القبلية والطائفية والمناطقية وغيرها من الانتماءات الفرعية التي كانت نتاج ظروف آبائهم ومعيشة الكفاف والانغلاق والتكور الذي كانوا يعيشون فيه. ونسي الآباء مقدار التغير الهائل الذي حصل سواء كان في ظل المجتمع ذاته اقتصاديا واجتماعيا أو على مستوى العالم وتطور تقنيات الاتصال ومعرفة ما يجري في العالم والذي يعرفه الأبناء بكل تفاصيله. في المستوى الاقتصادي، الآباء الحاليون هم أبناء الطفرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان عدد السكان محدودا والفرص متاحة للجميع أثناءها للحصول على العمل، كانت الشهادة الابتدائية كافية تماما للحصول على عمل وفرص الغنى السريع متاحة لمن أراد اقتناصها وكانت موارد البلد المتاحة أكبر بكثير من عدد السكان لذا تدفقت ملايين من الأيدي العاملة الأجنبية لسد الاحتياج، لكن الذي حصل في النهاية أن الآباء استثمروا في الحجر بدل أن يستثمروا في البشر. أبناؤنا اليوم يعانون الأمرين من أجل الحصول على أعلى الدرجات في شهادة الثانوية العامة من أجل فقط أن تتاح لهم فرصة الحصول على مقعد دراسي في الجامعة وكثير منهم لاتتوفر لهم الفرصة. بل أولئك الذين سنحت لهم الفرصة لكي يتخرجوا من جامعاتنا لاتتوفر لهم فرصة العمل والآلاف إن لم يكن الملايين منهم عاطلون، وحتى الجزء منهم الذي يحصل على عمل فراتبه بالكاد يسدد فواتير الاستهلاك اليومي. ومع كل ذلك يريد جيل الآباء أن يفرض قيمه وتعصبه على هؤلاء الشباب والشابات وهو لم يوفر لهم الحياة الكريمة. من الناحية الاجتماعية، يرى شبابنا «ذكورا وإناثا» ما يجري في العالم ويقارنون وضعهم بنشاطات شباب العالم في كل مكان من الأرض حتى وهو في غرفته المعزولة عبر الفضائيات والإنترنت، بل إنه يتحدث مع الجميع في كل بقاع الأرض ويرى مقدار المرح والسعادة والنشاطات الشبابية المختلفة والمليئة بالحيوية والانفتاح على الحياة. والشاب هنا ممنوع أن يدخل مجمعا تجاريا فقط لأنه شاب ومع ذلك مطلوب منه التقيد بالقيم والأوامر التي يصدرها الآباء. وعند الحديث عن وضع الفتاة «المرأة» في هذا الجانب فالأمر هنا يصبح مفارقا ومغايرا حد التناقض، فحين يكون الشاب الذي هو محروم بالأساس من ممارسة حياته بشكل طبيعي وتمنع عليه الأماكن وتسد في وجهه السبل. فهي ورغم أنها أثبتت أنها أكثر التزاما بدراستها وأكثر مسؤولية في عطائها إلا أن عليها أن تعيش مقبورة بين جدران البيت سواء كان بيت أبيها أو زوجها. حيث تسد في وجهها سبل العمل وسبل الحياة رغم أنها تعرف تماما ما يجري حولها. تعرف أن أخاها أو أباها أو زوجها يمارس كل المحرمات ويمارس كل الرذائل وذاك لايعتبر «شرفا» مس أو قيمة اجتماعية انتهكت، وما أن يأتي الحديث عنها يصبح مجرد الخروج من البيت «شرفا» انتهك. وأخيرا.. تكرم عليها جيل «الملاك» عفوا الآباء أخيرا بالعمل كخادمة في المنازل وأصبحت مطلوبة حتى في دول الخليج الأخرى لتعمل في هذه المهنة التي إن قبلتها فلأنها مرغمة نتيجة لوضعها المزري وتحملها المسؤولية بدل أن يوفر لها مجتمع «الآباء» مهنة كريمة يستطيع أن يفخر بها من حولها، وهي قادرة بالتأكيد لو توفر لها التدريب والتعليم على الأقل في المجالات المرتبطة بالنساء والتي يصرف عليها المجتمع المليارات في النهاية ومن ضمنها الملابس النسائية التي تباع بآخر صرعاتها في العالم وتزيين شعر النساء الذي يصرف عليه في الأعراس المستمرة ملايين الريالات وبقية الصناعات التي تستطيع فتاتنا العمل فيها. ومع كل ذلك عليها فقط أن تصمت.. ظواهر كثيرة تحصل في مجتمعنا هذا نتيجة حالة الاختناق والصراع بين الأجيال كظاهرة التفحيط الجماعي، وظاهرة السرقة المستشرية، وحالات العنف والقتل وحمل السلاح وظواهر التمرد على الآباء وغيرها، تستحق الدراسة والبحث لأنها ناتجة بالأساس عن هذا التناقض بين مفهوم الأبوة القديم «الامتلاك» وبين جيل يبحث عن حياة كريمة وحرية مسؤولة. إن حل هذا التناقض الذي أعتبره من وجهة نظري التناقض الأساسي في مجتمعنا هو الذي سيحدد في نهاية الأمر مستقبل بلادنا، فهل نحن منتبهون؟. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 193 مسافة ثم الرسالة