ومات عمر محمد كردي... «إنك ميت وإنهم ميتون»... صدق الله العظيم. عرفه الناس سفيرا في خدمة بلاده، وشاعرا يعبر عن أفراحها وأتراحها وآمالها وإنسانها. من اقترب منه شعر وكأن الوفاء والأخوة قد تجسدت في رجل. لكن ما تفرد به عن الكثيرين غيره، هو تلك الروح الساخرة التي كان ينظر بها إلى الدنيا. تراه يتأمل في تقلباتها وفي لهاث الخلق في دروبها؛ وهم في سباقها المحموم يرتدون في كل مناسبة لباسا ويبتدعون لكل مقام حديثا ويضعون لكل بغية قناعا. عركته الدنيا، وعركت أسرته العريقة المحتد الكريمة الأصل والنسب، فأدرك معنى الغبن ودفع ثمن المجاراة، وروحه تنظر إليه من داخله ساخرة مذكرة بأن الدنيا لاترحم أحدا، وأن الحياة لاتبتسم دون مقابل، وأنه لاخيار له سوى أن يركض مع الناس وراء سراب يتفلت منهم كلما ظنوا أنهم مدركوه. كان الشعر ملجأه ومتنفسه. نشر ديوانه، واكتظت أدراجه وسباته بما لم ينشر. وكانت إخوانياته تطال كل صديق وقريب. كان يرى من خلالهم تقلبات الزمان وعربدة الدنيا وتغير الأحوال؛ وكانوا أيضا مرآته التي يرى فيها نفسه. فلسف في إخوانياته معنى الفشل، ونشوة النجاح، وآمال الثروة، وكبوات الحياة؛ بحثا عن حقيقة تتحقق في الدنيا، قبل أن يدرك الإنسان حقيقته الكبرى، حقيقة انتهاء حياته وانقضاء دنيته وحلول ساعته. أجهد نفسه ليرى من خلال المساحيق، ويبصر عبر الضباب، ويكشف ما تغطيه أكوام الأردية وأكداس الكلمات. لكن أنى له. فالحياة لايعلم بواطنها إلا خالقها؛ ولعل الرحمن الرحيم يكتب له في حسناته، أنه سعى ليكون صادقا أمينا شفافا مع نفسه ومع من حوله؛ وأنه قضى حياته في كبد ليغلب ما يريد على ما تريده الدنيا منه، وليضع لنفسه معيارا يتخطى قصوره كبشر. فالإنسان في نهاية المطاف هو السطر الأخير من معادلة حياته، من كشف حسابه، من إجمالي مواقفه وتنازلاته، من محصلة مبادئه ونزواته. رحمك الله أبا مازن، وطهر روحك، وفتح لك أبواب عفوه وغفرانه وبث فينا شيئا من سمتك وخلقك وإدراكك إنه سميع مجيب.