فرضت الولاياتالمتحدةالأمريكية في مايو الماضي تعرفة جمركية حمائية جديدة على وارداتها من بعض منتجات الحديد والصلب الصينية. فردت الصين بفرض قيود جديدة على وارداتها من المواد البتروكيميائية الأمريكية والأوروبية. ليرد الاتحاد الأوروبي في يوليو الماضي بفرض مزيد من القيود على منتجات الحديد والصلب الصينية. واليوم تخطط الولاياتالمتحدة لفرض تعرفة جمركية عالية على إطارات السيارات المستوردة من الصين. ولا نعرف كيف سترد الصين؟ ومتى؟ ولكن ما نعرفه هو أن مختلف دول العالم لا تحبذ الاستمرار في أفعال وردود أفعال حمائية مكشوفة قد تهدد مبررات العضوية في منظمة التجارة العالمية التي تتهاوى لوائحها وتنظيماتها تباعا منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في ظل مثل هذا الاتجاه الانكفائي على الذات خاصة بالنسبة للدول الصناعية الكبيرة التي تعتمد على أسواقها اقتصاديات معظم الدول الناشئة لتعزيز فرصها التنموية الضئيلة خاصة في ضوء اشتداد وطأة الأزمة العالمية عليها. ولذلك بدأت كثير من الدول في اللجوء إلى ما يعرف بالحماية الخفية Invisible أو الحماية العكرة Murky التي لا تستخدم أدوات الحماية المكشوفة مثل التعرفة الجمركية للحد من التجارة بل تلجأ لأساليب أكثر غموضا وأقل وضوحا لتجنب المخالفة الصريحة للمواثيق والاتفاقات الدولية. ومن أهم أساليب هذا النوع من الحماية أسلوب التحجج بمكافحة الإغراق، وتعقيد إجراءات الاستيراد الفنية والإدارية، وحملات تشجيع استهلاك المنتجات المحلية الأقل كفاءة في إنتاجها والأقل جودة في نوعيتها. ولقد تصدرت الهند مختلف دول العالم باستخدام أسلوب التحجج بالإغراق ضد مختلف المنتجات الأجنبية حتى أصبحت الشركات الهندية مسؤولة وحدها عن 25 في المائة من إجمالي طلبات الحماية بدعوى الإغراق على مستوى العالم حسب قاعدة البيانات العالمية المحدثة من البنك الدولي لدعاوى الإغراق للنصف الأول من هذا العام، حيث يبدو أن الحكومة الهندية كانت تنتظر مثل هذه الدعاوى من شركات محلية على أحر من الجمر لتسارع فورا بفرض تعرفة حمائية على وارداتها من أكثر من عشرين منتجا مختلفا. ولقد ذهبت منتجات عدة شركات سعودية ضحية لبعض تلك الدعاوى وفي مقدمتها بعض منتجات شركة سابك والمتقدمة دون اعتبار للميزة النسبية أو المقارنة أو أي اعتبارات نظرية أو عملية لتسهيل التجارة وحسن التعامل على المستوى الثنائي أو على المستوى العالمي. ولكن الصين تبقى هي المتضرر الأكبر من دعاوى الإغراق العالمية بما فيها الهندية حيث إن 75 في المائة من الدعاوى على مستوى العالم يكون أحد أطرافها منتجا صينيا مما أدى إلى تراشق إعلامي في بعض الحالات بين الصين والهند على وجه التحديد. ولئن تباينت الدول في استخدام الأسلوب الثاني المتمثل في تعقيد إجراءات الاستيراد الإدارية والفنية إلا أن الأسلوب الثالث المتمثل بحملات تشجيع استهلاك المنتجات الوطنية أصبح هو الأسلوب الأكثر استخداما والأكثر فعالية في الالتفاف على متطلبات منظمة التجارة العالمية، وذلك لما يتمتع به هذا الأسلوب في الحماية الخفية أو (العكرة) من مرونة وإمكانيات لا متناهية في الإبداع واكتشاف وتطبيق عشرات المشتقات التي تصعب المساءلة بشأنها. وكما كانت الولاياتالمتحدة سباقة في تطبيق التعرفة الجمركية الحمائية من الناحية التاريخية عندما فرضت سنة 1928م تعرفة تخطت 62 في المائة على الواردات الأجنبية، هاهي اليوم تقود العالم في ابتكار وسائل وطرق ضمن هذا الأسلوب، وذلك بطرح خطط تحفيز وأفكار، لتشجيع الصناعة الوطنية، لم تخطر على بال أحد من قبل، ويمكن أن تحظى بتصفيق العديد من قادة القطاعات الاقتصادية وجماعات الضغط الاجتماعية والسياسية ليس في أمريكا فحسب ولكن على مستوى العالم. ومن بين تلك الأفكار ما لجأت إليه إدارة الرئيس أوباما أخيرا من رصد مليار دولار لغرض شراء سيارات الخردة (القرمبع) بدعوى التخفيف من تلوث البيئة الذي تطالب كافة دول العالم الولاياتالمتحدة بتخفيفه. وتتلخص خطة الشراء في التالي: تقوم الحكومة الفدرالية بدفع قيمة تتراوح فيما بين 3500 دولار و 4500 دولار للسيارة (الخردة) الواحدة حسب حالتها وسنة صنعها على أن يتم دفع هذا المبلغ كدفعة أولى لشراء (سيارة أمريكية) جديدة بديلة. وما هي إلا سويعات من بدء تطبيق الخطة حتى امتلأت ساحات وقاعات عرض السيارات التي كانت خاوية على عروشها على مدى شهور بالمشترين المحتملين، وما هي سوى بضعة أيام حتى استنفد المخصص عن بكرة أبيه ليستصدر الرئيس تشريعا جديدا بزيادة المخصص بمقدار ملياري دولار إضافية، لتحقق شركات بيع السيارات الأمريكية أرقاما قياسية في مبيعاتها وصلت حد نفاد الكميات المخصصة من الموديلات صنع 2009م للعديد من وكلاء بيع السيارات في طول البلاد وعرضها. وبذلك تقدح الحكومة الفدرالية الزند لإطلاق شرارة تحفيز أخرى بعد شرارة التحفيز التي أطلقت في القطاع المصرفي، ليتجاوب الاقتصاد الأمريكي سريعا وتنطلق مؤشرات أسواق المال والصناعة من جديد لتحقيق أرقام قياسية جديدة. وهكذا تمكنت الحكومة الأمريكية من الاستفادة من حملة الضغوط العالمية عليها للتقليل من العوادم الصناعية بتجميع سيارات (الخردة) من شوارع بلادها وتشجيع صناعتها الوطنية بحيث لا يمكن لأحد من المتضررين أن يلومها على فعلتها بما في ذلك اليابانيون أكثر المتضررين الذين يشكون من انخفاض صادراتهم بمقدار 50 في المائة حتى الآن واحتمال تفاقم خسائر صناعة السيارات لديهم في المستقبل بسبب هذه الخطة الجديدة لتحفيز صناعة السيارات الأمريكية. لقد كان الأسلوب الأمريكي في الالتفاف على حرية التجارة العالمية أرقى من الأسلوب الهندي، لأن قضايا الإغراق يمكن أن تحل بالتراجع عنه، ولكن خطة كهذه ماذا يمكن أن يقال عنها؟!.. وتبقى الدول العربية بما فيها المملكة خارج لعبة الأمم الاقتصادية هذه، وتكتفي بالدفاع عن نفسها في قضايا الإغراق التي تقام على بعض منتجاتها الأولية وشبه الأولية بين الحين والآخر، وتنتهي عادة بالاستجابة لطلبات الطرف المدعي. وبالطبع لم أورد خطة تحفيز صناعة السيارات الأمريكية هذه لتمجيد أمريكا وعبقرية اقتصادييها، ولكن لأضرب مثلا بأن العملية الاقتصادية بما فيها الإجراءات التنظيمية والخطط التحفيزية التي تلجأ إليها الدول هي عملية إبداعية تتطلب الكثير من الجهود والبحوث والدراسات المنظمة والمبادرات المتقدمة، وبالتالي فإن الاعتماد على البيروقراطية الحكومية المستندة على التمسك بأنظمة وقوانين منظمة التجارة العالمية واعتماد المفاوضات فقط في حل القضايا العاجلة مع الدول الأخرى لن يجدي نفعا في ظل الظروف الاقتصادية العالمية المتردية. والمطلوب باختصار هو التخطيط لانتشال اقتصادنا من أزمة الركود العالمي بابتكار وسائل تحفيز جديدة، والإقدام على أفعال وردود أفعال ومبادرات إبداعية متقدة ستجبر الآخرين في النهاية للاحتكام إلى طاولة المفاوضات على أسس من التوازن والاحترام المتبادل. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة