لم يكن يمر سوق عكاظ الحدث التاريخي بمعاييره المعروفة، إلا ويتم الحديث بشكل أو بآخر عن الأوبريت الغنائي، بما يمثله من زخم لمحبي فن الموسيقى والأغنية سواء الشعبية أو المعاصرة. لكنني أجزم أن أوبريت سوق هذا العام كان مختلفا، بكل ما فيه من إضاءات وإيقاعات، ليست على صعيد النص المكتوب الذي سطرته أياد بارعة وقف وراءها اللواء متقاعد الشاعر المعروف والبرلماني المتميز عبد القادر عبد الحي كمال، واستطاع من خلاله توصيل فكرة الانتماء والإيقاع، وارتقى به من حيز الزمان والمكان إلى سيمفونية واقع الخلود، وأجاب من خلاله على سؤال لطالما حير الجاهلين بماهية السوق التاريخي.. لماذا الأهمية والاهتمام، وأزاح فيه الستار عن معنى السوق بنداء ياعكاظ الخير ، وسجل فيه رؤيته لمستقبل السوق عبر ما يصطفيه كل شيخ وصبي ، ليصل أخيراً إلى محورية نحن أمة مهدية ، مغلقاً جدلية باب إحياء التراث الجاهلي. ليس الأمر على ذات الصعيد وحده، أو على محور قيثارة الفن العربي، وصاحب الحنجرة التي تستطيع هي الأخرى أن تحول الكلمات إلى لوحة فنية رائعة، بل الأمر يتجاوز هذين المحورين، إلى الأوبريت في حد ذاته، معنىً ومفهوماً. فالجميع لا يشكك في مقدرة كل طرف في النبوغ، حسب قدرته الفنية وبما حباهم الله تعالى من امكانيات وقدرات قد تقوده للمنافسة، فاذا كان جسد الأوبريت قصيدة، فانه لا مجال في تجاوز من يؤدي القصيدة، فلا يعطى الخيط لمن لا يعرف الوخز، ولا يركب الفرس إلا فارس مغوار. من هنا جاء التكامل في المعنى والمحتوى، فالأولى تضم أبعاد الأوبريت بمفهومه الوطني، وشكله الفني، والثانية تتناول طرح التقديم بمرتكزاته الأساسية كلمة ولحناً وصوتاً وربما مؤثرات إيقاعية مكملة، كاستعراض فني وموسيقي وتراثي. لذا جاء الاختلاف، خاصة أن عشاق فنان العرب محمد عبده الذين عرفوا أنه سيحمل راية الصوت في هذا المحفل الهام، لم يخالجهم شك في أن صوت فنانهم المفضل، يجب ألا يمثل وحده إضافة لسوق عكاظ في عامها الثالث، وإن اتفقوا على أنه يمثل إضافة معهودة لإيقاع الأغنية. والأمر لا يبتعد كثيرا عن التباري في ميدان كرة القدم، فلاعب واحد لايملك المقدرة على كسب الجولة أمام فريق آخر، لكنه إذا اكتمل العمل شع الضوء من كافة أركانه، لتكتمل ألوان الطيف، ويكون الفوز حليف الفريق المتكامل. وأعتقد أن اختيار الثلاثي «عبدالقادر كمال، ومحمد عبده، وفرقة المجرور»، لم يأت اعتباطاً، بل عن دراية وتخطيط، وتتضح الحقيقة في العودة لما نقل عن الشاعر عبد القادر كمال قوله «واجهت اختبارا صعبا أمام الأوبريت»، مؤكدا أن نص الأغنية من إيحاء الأمير خالد الفيصل، حيث أبلغه أن الحفل سيتخلله فن المجرور باعتباره فناً أصيلاً ينتمي لمدينة الطائف، وأطلعه على رغبته بأن يكون النص عربيًّا فصيحًا. من هنا كان التحدي أمام الشاعر، حيث اعترف أنه واجه صعوبة، لأنه لا يعر ف الألحان، كما أن اللحن الشعبي لا ينطبق على التفعيلة بالنسبة لبحور الشعر العربي الفصيح، لذا اختار من البحور الرمَل، والمديد، والخفيف. ومن هنا أيضاً كان التحدي الأكبر أمام انسجام الكلمات مع بحر الإيقاع من ناحية، ومواءمة الصوت لمخرجات الألفاظ من ناحية أخرى، وأحسب أن الثنائي كمال، عبده، كانا من أفضل الخيارات لتنفيذ مخطط العام الجاري. وعموماً رضيَ من رضى وأبى من أبى فان الأوبريت الذي احتوى فناً أصيلاً في الطائف وغناه فنان أصيل في الطرب، وصاغه فنان أصيل في حياكة الكلمات، خرج بزي جديد، وإن كانت المناسبة تحمل الصفة التاريخية القديمة. المهم في الأمر أن الفكرة وصلت أن إحياء التراث القديم يجب ألا يتمحور في أفكارنا، بالاكتفاء في البحث داخل الأغوار، والكهوف عن الأحجار المفقودة، والدرر المدفونة، بل في انعاش فكرنا بما يمكن استثماره من قديم ليواكب العصر الجديد.. ولنا خاتمة.. سوق عكاظ.. ليس بمن حضر.!