السياسة الأمريكية، شأنها شأن القانون، تحمل تناقضات وعوالم غير مرئية تحكمها أعراف غير مكتوبة. في مقالي السابق، تحدثت عن دور الأعراف الاجتماعية في تشكيل السلوك التصويتي للناخب الأمريكي، حيث تناولت مفهوم ال«WASP» (الأنغلوساكسون البيض البروتستانت) كإطار غير مكتوب ولكنه مؤثر بعمق في السياسة الأمريكية. أوضحت كيف يُعتبر هذا العرف مصدراً غير مكتوب للترشح المثالي للرئاسة الأمريكية، مع تفضيل المرشح الأبيض البروتستانتي المنحدر من أصول أوروبية، وكيف لعب هذا العرف دوراً مهيمناً في توجيه الوعي السياسي لأكثر من قرنين، رغم أن الدستور الأمريكي يضمن لكل مواطن أمريكي حق الترشح بغض النظر عن العرق أو الدين. غير أن عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض لم تكتفِ بالتأكيد على هذا العرف فحسب، بل كشفت عن أبعاد جديدة وعميقة تجسد تجذر هذا النموذج ومرونته في آن. لقد جاء فوز ترمب ليعكس حالة من «التكيف المحافظ»، إذ استطاع أن يجسد صورة القائد الذي يتماشى مع القيم الأمريكية التقليدية، ولكنه في الوقت ذاته يخاطب مخاوف شريحة واسعة من الطبقة العاملة البيضاء التي ترى في العولمة والهجرة تهديداً لهويتها الراسخة. ورغم أن الدستور الأمريكي يمنح الحق لكل مواطن للترشح للرئاسة، فإن الواقع الاجتماعي يُظهر أن الأعراف الأمريكية غالباً ما تتجاوز القوانين المكتوبة، لتشكل مساراً يضبط بوصلة السلوك التصويتي للأمريكيين. ترمب، رغم عدم انتمائه الصارم للعرف التقليدي، تمكّن بأسلوبه الصريح وخطابه الجدلي من إقناع الناخبين المحافظين بأنّه صوتٌ ينطق باسم القيم الأمريكية المتأصلة. لقد رأى فيه أفراد الطبقة العاملة البيضاء المهددة بالتهميش شخصاً يُعبر عن طموحاتهم ويُكرس قضاياهم، حتى وإن لم يكن يجسد نمط السياسيين التقليديين الذين عهدتهم الساحة الأمريكية. صراحة ترمب وجاذبيته الجدلية أعطته مكانة مميزة في أعين الناخبين الذين يبحثون عن زعيم قوي يجسد أحلامهم حتى في مواجهة المعايير السياسية التقليدية. بذلك، استطاع ترمب أن يعيد صياغة عرف ال«WASP» ليشمل جانباً طبقياً واضحاً، حيث بات التوجه الاجتماعي لأعراف السياسة الأمريكية يُضاف إليه بُعد جديد: الطبقة الاجتماعية كعامل حاسم، بجانب العرق والدين. ختاماً، إن فوز ترمب يمثل لحظة تاريخية فاصلة، إذ يُظهر أن الأعراف الاجتماعية، رغم تجذرها، ليست ثابتة بل قابلة للتحول والاستيعاب لما تفرضه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية. فقد شهد عرف ال«WASP» تحوراً يسمح بإضافة عنصر جديد من تطلعات الطبقة العاملة البيضاء، مشيراً إلى أن السياسة الأمريكية، وإن بدت محافظة في جوهرها، تظل قادرة على استيعاب تحولات جديدة تعيد صياغة هوية الناخب بما يتماشى مع مستجدات المشهد الاجتماعي العميق.