مئةُ سنة مضت على وضعِ الحربِ الأهليةِ الأمريكيةِ لأوزارها، التي كان من أهم أسبابها إلغاء الرقِ، ولم يحصل السودُ على حقوقِهم المدنية، بسببِ تجذرِ العنصرية في ضميرِ وسلوكِ الأغلبيةِ الأنجلو سكسونية البروتستانتية البيضاء. هذه العنصرية، ضد الأقلية السوداء، فُرضت بمنهجيةٍ قانونيةٍ قاسيةٍ، ببعض ولايات الجنوب، حتى ستينات القرن الماضي، وصلت لدرجة الفصل العنصري (الأبارتايد). في النصف قرن الأخير، حصلت تطورات على مستوى مؤسسات الدولة السياسية، توسعت فيها مجالات الحقوق المدنية للأقليات في الولاياتالمتحدة. بموجب قانون الحقوق المدنية (1964)، حيث جاء في مادته السابعة: تحريم التمييز العنصري بسبب العرق واللون والجنس والدين. دفع ذلك القانون الدولة لأخذ المبادرة في التدخل الإيجابي لمراعاة تعددية المجتمع الأمريكي ومنع العنصرية في توزيع موارد الدولة وفرص العمالة وتوفر الخدمات، في ما عرف ب(Affirmative Action)، الذي تأخذ به الآن 48 ولاية.. ويحظى بتعاطف المحكمة الدستورية العليا. ساهمت هذه الإصلاحات المدنية، على مستوى الدولة، في حماية حقوق الأقليات المدنية والسياسية، مما قاد إلى انتخاب أول رئيس أسود للولايات المتحدة باراك أوباما (2008 - 2016). أهم من ذلك: زيادة الوعي في داخل المجتمع الأمريكي، مما جعله أكثر تسامحاً تجاه القبول بالآخر.. والتعاطف مع حقوق وتطلعات الأقليات، ونبذ الكثير من السلوكيات العنصرية، كما ظهر جلياً في مشاركة البيض في المظاهرات ضد عنصرية رموز الدولة ومؤسساتها في قضية قتل الشرطة للمواطن الأمريكي الأسود (جورج فلويد). لكن يظل في اللاوعي عميقاً في ضمير الأغلبية البيضاء (الأنجلوسكونية البروتستانتية)، يكمن خطرٌ سياسيٌ واجتماعيٌ، يحفز ممارسات عنصرية، سببه: ذلك الشعور باحتمال فقدان تلك الأغلبية لمكانتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المهيمنة، التي وصلت إلى أقل ما يقرب من 60% من الشعب، بعد أن كان من مئة سنة أكثر من 90%. قاد هذا لموجة جديدة من التطرف العنصري، من قبل البيض، أفرز قيادات سياسية غير محترفة.. غير ليبرالية، ولا متسامحة، لتقتحم عالم السياسة.. وترهن مستقبلها وإرثها السياسي، باستدعاء أفكار ومواقف وممارسات عنصرية. كان أحدث معالم ذلك استعراض الصورة الذي قام به الرئيس ترمب (2/6/2020) أمام كنيسة سان جون المواجهة للبيت الأبيض وهو يلوح بالإنجيل، في مواجهة المظاهرات العارمة التي وصلت للبيت البيض. بامتداد موجة الاحتجاجات ضد العنصرية لأوروبا، هناك حاجة سياسية، وعلى مستوى النظرية الليبرالية نفسها، لإعادة النظر في المنطلقات القِيَمِية لصيغةِ العقدِ الاجتماعي في المجتمعات الغربية، من أجلِ استيعابِ التطورات «الديمغرافية» فيها، لتعكس حقيقة التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية بها، حتى لا تنزلق تلك المجتمعات لموجة جديدة من الفاشية والشمولية الشعبوية، كما حدث في النصف الأول من القرن الماضي. كاتب سعودي [email protected]