عاش (المطنقر) في قريته حياة ماش، أبوه ينهره، وجده يدفره، وأمه تقهره، وإذا صاحوا عليه، وكثّر الجدّ المناداة، ونشده؛ ليش مخرّق في الجرين، ما تدري أن الحبّة مع الحبّة تكيل، والقطرة مع القطرة تسيل، وتغلبه الشفقة، فيقول؛ اعط بجهدك وأنا جدك، ولقّ بالك من الشغل بعد تشبع في تفقيق اللوز، فيردّ (الكُلّ يدعون باسمي واتعيّا من اجيب). كان يوم السعد عنده، إذا عاد خاله من السفر، ودعاه، وقدح البرّاد، وشغّل الشنطة البكم، ينبهر من بكرة الأسطوانة، وعليها إبرة تدور، ويخرج من مجسم مثل المحقن صوت طربي، يحلّق به في الخيالات، وفي ليلة مدّ له الخال بسيجارة، وهو ساري، فصادف أبوه يقضي حاجته في الخربة، فتخشّب مكانه، قام عليه وفتّها في خشمه، وتركت ماريّة، أوجعته في قلبه، فاشتكى لجده، فقال الشيبة؛ ليته أشكل، ما يتّنْبك إلا جيب مليان، وبطن شبعان، ورأس صنيان، وانت لا انت من المعزا، ولا أنت من الضان. أقسم ما يثنيها، وترضّى خاله لين رضي يسافر به معه؛ وهو ما بعد خطّ شاربه، ركبهم معه، في لوري هو وثلاثة أنفار، إلى القوز، ومن المرسى، أجّر عليهم في سنبوك إلى ميناء أفريقي، وأوصاهم يروحون عند (شيّال) يعرفه وهو بيدبرهم، نصوه، ولقي لهم عمل في الميناء حمالين، ما مضى على رفاقته شهر إلا وهم شاردين، طقهم اللسب، وصابتهم الملاريا، وهو صبر وكافح، وعندما سمع أن العرافة انتقلت لبيتهم، وصار جدّه آمر ناهي، سالت ريقته للشياخة، فرجع بعد ثماني سنين فاد منها وصاد. عاد للقرية، بالكساوي والعطاوي، وخياش البُن الهرري، وبهر جماعته بخبرته بأمور الزراعة، والنسيج، وعلاج بعض الأمراض، وسوى له جده مقام، عزم فيه القرية وبعض صدقانه من قرى مجاورة، وتولى الصغار حمل طيس الماء بين المعازيم، وبعضهم يحملون أباريق الغسيل، وأكثر ما يبهجهم بعدما يمدون على أيدي المكثرين بالخير، قول كبار السنّ؛ غفر الله لك ولوالديك، ولمن غسّل بين يديك، يصبون على أيديهم، وعيونهم قاطعة في الصحون لا تنشال وينحرمون العشاء. انبسط (المطنقر) يوم شاف خاتم العرافة في اصبع جدّه، وبدت عجارم أصابعه تأكله، يبغي العرافة، صهّر له الجدّ في عروس قومانية، من بيت ضارب، وأهلها تجر فابتنى له عالية، بالطوب، فوق البيت الحجر، وخصص له وللعروس مروَش، واشترى دوشق ينامون فوقه، وبعد سنة زواج، أنكر الجدّ على العروس، وقال للمطنقر، لا تكون سواة ذاك اللي إذا ركب فوق الجمل دنّق برأسه، ظنتي الأفارقة سحروك، وإلا زوجتك كما الركيب المنصلق، فعلّق؛ إما من بابتي فلك الله كما الفراص، لكن إذا كان في النقر ندواء ما يثور اللغب يا جدّ، فدعا له؛ الله يطعمك منها. تقدّم العمر بالجدّة، فجاء الفقيه يعسّها، نشدها؛ عرفتيني يا رفدة؟ ففتّحت عيونها، ورفعت رأسها عن الوسادة، وقالت؛ كيف ما اعرفك والله لنشيت وشبيت وشبت، ما نسيت يوم طقطقت ظهري تحت المشمشة، وانحن نحمي الخريف، فرد عمامته على وجهه وخرج مردداً الله يحسن لنا ولك الختام، لحقه المطنقر، وخفته في أذنه؛ أثرك لسلوس من زمان. أقسم (المطنقر) للمأذّن، يا متى يصير عريفة، إنه ليوقف كل واحد من جماعته عند حدود محارمه، وأضاف إن كان جدّي وآبي ما ربوكم وما غير يهوبون عليكم بالجنبيّة، فانا باطعن واجرّها، فقال المأذن؛ يا الله في الحيا، بعد جدك يعيش لين تشوف بياض عارضك، وأبوك ما يموت إلا وظهرك محني! فدحسه بكعبه في جنبه، وقال قم اسر الله لا يسريك في خير يا حسودي. فسمعهم الفقيه، وهو فوق عِدلة التمر التي كان يحشيِها، فجوّد المذّن من قفاته، وقال يا ديكان؛ لا تكسّر مجاديفه؛ خلّه يتحلّم بالعرافة لين تتناصل قرونه وش عليك من زحمة، انفتل عليه، وقال؛ ما تخاف الله يا المقرفط، اللي أطيب منه بعد أحيا وتبغاه يرثهم، فقال؛ معه جنيهات وفرانسة، وانحن نصير الموامين، وبيصارفنا حتى تبيح، ونحمّل من بعره فوق ظهره، غنّ له باللحن اللي يعجبه وش انت خسران. مات الجدّ؛ وغادر القرية نص الجماعة، سافروا للعمل في المدن، وبدأ عدد القرويين يتناقص، والمطنقر يترقب متى تحين منيّة القحم، وكل يوم يتهدد ويتوعّد في السارحة والرايحة. فتحت الجامعات، وكل رجال خذ عياله، وتوكلوا على اللي ما تسهى عينه ولا تنام، ويوم مات أبوه، أوّل ما استحب خاتم العرافة من اصبعه، وعزّاه الفقيه والمأذّن، ودفنوا المرحوم معه، وقالوا؛ ترى فيك الذمة، أولادنا استلحقونا، فطلع فوق البيت، ودرّج نظره يمين ويسار، وصار يهرج نفسه؛ يوم صرت عريفة ما عاد في القرية ولا برطم، إلا آنا وحرمتي، فسمعها تدعيه؛ أنزل تقهو يا عريفة، قال؛ لو اسمعك تطرين عريفة على لسانك ما تبقين على ذمتي ساعة، عريفة على من؟ على نفسي.