لا يُختَلف على أهميّة الكتابة الإبداعية، لكن الاختلاف الكبير على وظيفتها، وحلم الكاتب من خلالها. الروائي الراحل خيري شلبي كان له رأي عن وظيفته ككاتب، وأنّه لم يأت ليثبت للقراء أنّ المجتمع منحل وليس دوره أن يكرّس للانحلال، لكنّ دوره ككاتب أن يكتب الشيء الذي يتمناه، وأنّ حلمه أن يكتب رواية يحكيها الناس في المقاهي، ولا يتحدث عنها النقاد! تعبير عن النفس حول الكتابة ووظيفتها استطلعت «عكاظ» آراء كتاب سرد وشعر ونقاد وبما أنهم يكتبون في هذه الفنون الإبداعية المختلفة فقد كانت آراؤهم متباينة، إذ رأى الشاعر والكاتب أحمد السيد عطيف أنّ لكل إنسان ما يمكن أن يقوله للآخرين، فالكتابة هي في النهاية حديث بين الناس، بين متكلم وسامع. وأكد أنّ الكاتب بصفته إنساناً يحمل نفس تكوين الآخرين عاطفياً وعقلياً واجتماعياً، لكن، وهذا أحد أسرار الخلق، له إحساسه الخاص ورؤيته الخاصة للعالم، فحلمه الأول أن يعبّر عن نفسه للآخرين، كما يبكي الطفل ليُشعِر الآخرين بوجوده. فالحلم الأول للكاتب هو التعبير عن وجوده، أما مهمته وواجبه أن يكتب بصدق عما يفكر أو يشعر به، سواء كان رأيه صواباً في رأي الآخرين أم خطأ، وسواء كان موقفه من موضوعه مقبولاً من الآخرين أو مرفوضاً، فالأهم أن تكون غايته تحسين رؤية وحياة الآخرين. صدق الشعور ورأى عطيف أن مهمة الكاتب في الكتابة الإبداعية أن يعبّر عن شعوره بصدق، فتعبيره بصدق هو أيضاً تعبير عن الآخرين، سواء اتفقوا أخلاقياً معه أو اختلفوا، واستشهد عطيف بخمريات أبي نواس التي نجد فيها صدقاً جميلاً، كما نجد صدقاً جميلاً في كبرياء المتنبي، وفي صوفيات ابن الفارض، مع أنهم مختلفون عن بعضهم ومختلفون عنا عصراً وسلوكاً، وهم كتبوا رؤيتهم ومشاعرهم لا ليرضوا الناس ولا ليغضبوهم، وإنما ليعبّروا عن وجودهم هم ورؤيتهم هم. وفي كل واحد منا يوجد هذا التنوع إما بالفعل وإما بالإمكان، الحب، والزهد، والحرية، والتدين.... إلخ. لم يكتبوا أشعارهم ليقنعونا بالخمر أو بالتصوف أو بالزهد أو بالحب، بل كتبوها ليقنعونا بصدقهم، ويعبروا عن لحظاتهم ومشاعرهم التي هي فينا أيضاً بصفتنا بشراً من طينة واحدة ونفس واحدة.. ولفت عطيف إلى أنّ الجمال ليس في أقوالهم بل في الصدق الذي فيها، الذي نشعر به حين نقرأ لهم. مهمة قيس بن الملوح أو إبراهيم ناجي أن يكتبوا عن عاطفتهم تجاه حبيباتهم، يكتبوها بصدق، ونحن نقرؤها وتعجبنا مع أننا لا حبيبات لنا!.. وخلص عطيف إلى أنّ مهمة الكاتب هي التعبير عن وجوده بصدق، فإذا فعل فهو كتب عنا جميعاً، نحن شركاؤه في التكوين والحياة والمصير.. أمّا حلم الكاتب فلا يتجاوز أن يعبر عن وجوده لنا، نحن شركاؤه في الوجود.. نحن هو، بكل ما فيه من أخطاء وخوف وأمل. الكتابة عمل جماليالروائي عبدالله الوصالي لا يختلف مع ما ذكره الروائي الكبير خيري شلبي، لكنه يذكر تفاصيل يرى من الأهميّة الانتباه إليها: ليس من شأن الروائي إثبات أي شيء، فهو ليس بصدد إنتاج دراسة علمية أو تتبع ظاهرة اجتماعية بأدوات التحليل الاجتماعي، ورغم التفاصيل التي يمكن أن يختلف ذكرها من كاتب لآخر عن وظيفة الروائي في مجتمعه إلا أنهم يجتمعون تحت مظلة العمل الجمالي ولا غير أما الباقي فيأتي تبعاً لذلك، ويضيف الوصالي، الجمال والعمل الجمالي من طبيعته حمل المعايير السامية والجمال. أما الأمنية في الوصول إلى الناس في المقاهي، فقامة مثل خيري شلبي كقيمة روائية عربية لا بد أن أعماله قد ملّت النقد وشبعت منه، وفي ظني أن دراسات كثيرة في الحقل الأكاديمي اتكأت على منتوجه الأدبي. أما بالنسبة لكاتب مثلي فلا علم لدي عن دراسات لمنتوجي الأدبي سوى اثنتين إحداها أجهضت، وأخرى بترشيح من أستاذنا الكبير حسن النعمي لأحد طلابه. لست زاهداً في النقدالوصالي ذكر أنه ليس زاهداً في النقد الأكاديمي فهو في نهاية الأمر سيصب في صالح كتاباته والدراسات النقدية الأكاديمية من أهم الوسائل التي يتعرف بها الطلاب على عالم الإبداع، وقد يصحبهم ذاك الاطلاع لفترة طويلة بعد التخرج، وشئنا أم أبينا سينمط طريقة تعاملهم واطلاعهم. رواد مختلفونأما حلم شلبي في الوصول لطبقة رواد المقاهي وهي رمزية لأفراد المجتمع غير المتخصصين رغبة نبيلة لا شك، لكن رواد المقاهي الآن مختلفون عنهم في الماضي وهم أقرب للروايات التجارية والفنتازيا بسبب تأثر تكوين نمط الرؤية لديهم بالصورة والعالم الرقمي. أنا أيضا أشاطر أستاذنا شلبي نفس الحلم، ففي النهاية أنت تكتب للتواصل مع الناس وتضخ كل تجربتك الإنسانية في نص قد يستغرق منك سنوات ليس لتكريس أي شيء سوى ديمقراطية الأفكار ونسبية الرؤى وقبل ذلك الجمال. الإبداع كُتِب للقرّاء الروائي أحمد السماري تمنى أنّ تتحول رواياته إلى أحاديث القراء ومحبي الروايات، أكثر من كتابة ناقد له ذائقته الخاصة التي قد لا تستسيغ العمل وقد لا تعجبه الفكرة الروائية من الأساس، فيكتب بقلم متثاقل عندما يصادف الجمال في الرواية، ويستخدم مشرط جراح حاد عندما يصادف هفوة أو حتى خطأً مطبعياً أو نحوياً. وأضاف: أعجبني ما كتبه الناقد والأكاديمي د. معجب العدواني على حسابه في (إكس) في هذا الموضوع موجهاً رسالة مبطنة لبعض النقاد المزاجيين عندما كتب: «لعل من أبرز أبجديّات النقد الحديث وسمات الناقد الجاد أن تدعَ بينك وبين العمل الإبداعي الذي قد لا يعجبك، أو قد لاتستسيغ صاحبه مسافتين: الأولى منهما مسافة من النبل تمنعك من الانتقاص من المؤلف، والأخرى مسافة من الأدب تترفع بك عن الادعاء بصواب جهلك، وتخطئة علم غيرك». ودعا السماري إلى أن نتذكر أن الأعمال الإبداعية في الأساس ليست موجهة للنقاد وإنما للقراء، وهم الهدف المنشود من كل فعل كتابي، لذا يبقى هم الإبداع منصبّاً على المبدع ذاته، لذلك من الضروري أن يكون المبدع على قدر المسؤولية في طرح مواضيع جديدة ومختلفة، وعليه أن يقرأ كثيراً ويبحث أكثر، حتى يصل بموهبته كما يقول خيري شلبي نفسه: «الكاتب الموهوب هو من ينسيك أنك تقرأ، إذ هو يضعك مباشرة في قلب الفعل الحيوي دون مقدمات، يحيلك إلى طرف أصيل في الفعل الفني الذي يبدأ تحلقه بمجرد وقوع بصرك على السطر الأول». الإبداع عمل روحي الكاتب خالد بن سفير القرشي رأى أن الجمال والمحاسن والإبداع فضاءات الأدب والأدباء ومن في حكمهم من كُتَّابٍ ومبدعين وهواة؛ أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن عموم الناس. وأما الانحلال والمساوئ والقبائح بكل أنواعها وأشكالها فليست من شأنهم؛ لكونها خارج نطاقاتهم، وخلاف فضاءاتهم، وضد مبادئهم. ومقولة الأديب العريق، والإنسان المتجذر في إنسانيته (خيري شلبي)، مقولة غاية في العمق والأصالة؛ لاتساقها مع فلسفات الكتابة وفلسفات الأدب والفن والإبداع؛ لأن الكتابة عمل إبداعي في أساسه وأصله؛ والإبداع عمل روحي (جوَّاني) ينزع إلى المثالية السامية التي لا تتصل بعوالمنا الخارجية الشوهاء المعقَّدة. ولأن الإلهام غاية الكتابة الرئيسة ودورها الأساس؛ وجب عليها أن تظل في فضاءات الجمال والإبداع والمحاسن الظاهرة والباطنة في هذا الوجود. ومن خلال الإلهام والمصدر الروحي والجمال نستطيع أن نضع خطاً فاصلاً بين الكتابة الإبداعية الأصيلة والأخرى الزائفة الدخيلة المدعاة. واستشهد القرشي بمقولة (بوريس باسترناك): «إن الرجل الشرير لايمكن أن يكون شاعراً عظيماً»، لأن الروح السامية مصدر الشعر والفن والإبداع الإنساني كله، والشرير لا روح له؛ لأن الشر عادة ما يطفئ الروح ويظلم بالنفس ويجعلها خربة معتمة، وعلى هذه الفلسفة العظيمة بنى الفيلسوف علي عزتبيقوفيتش فلسفته الخالدة المجيدة؛ لما قال: «الإلهام جوهر الدين والفن والأخلاق». الجمال لا يعك ما من كاتب أو فنان أو مبدع أو رسام أو أديب ينطلق من منطلقات غير جمالية في عمله الإبداعي والفني الأدبي أو يعمد إلى غاية غير الإلهام؛ فإن عمله يولد ميتاً ميؤساً منه؛ لأنه خالٍ من الروح، خالٍ من الحياة، خالٍ من جماليات الوجود. وأكد القرشي أن علينا فهم مقولة شلبي فهماً عميقاً أصيلاً مسؤولا؛ لأنّ الروح التي يمتلكها الكاتب وكل مبدع وأديب، لا يحركها إلا المحرك الجمالي، ولا ترجو غير الإلهام، وهذه هي غاية أمنيات الكاتب الأصيل. ولذا قال: «دوري ككاتب أن أكتب الشيء الذي أتمناه، حلمي أن أكتب رواية يحكيها الناس في المقاهي» ولن يحكيها الناس في المقاهي إلا لما انطوت عليه من الجمال والإلهام. ولفت إلى أن الانحلال وملاحقته، وتجفيف منابعه، ومساءلة مقترفيه، مسؤولية المحققين والمخبرين، ورجال الشرطة، وأمناء الأمن الذين كرَّسوا حياتهم الوظيفية لمكافحة الفساد، وملاحقة الفاسدين، ومواجهة الانحلال والمنحلين، وحقهم علينا أن نهبهم منابع إبداع، وموارد جمال، ومصادر إلهام؛ جزاء الأمن والأمان والاستقرار الذي وهبونا إياه منَّة من الله. وأما قوله: «لا يتحدث عنها النقاد» فلأن الجمال لا يُعك عكاً، والإلهام لا يُسك سكاً؛ كانت أمنيته أن تظل كتابته بعيدة كل البُعد عن أنظار النقاد، وفي منأى عن حدَّة طباعهم. المبدع ناقد أول لعمله الناقد والقاص عبدالواحد اليحيائي أكد أنّ القراء يشغلون أنفسهم بالقضية الأخلاقية في الكتابة السردية (الرواية والقصة القصيرة...) وبالتأكيد ليست وظيفة الكاتب (بوصفه مبدعاً) أن يثبت للقراء أخلاقيات مجتمعه سلباً أو إيجاباً، ولا من مهامه تقديم النصائح الوعظية أو الخطب المحفزة أو المنفرة، وليس من مهامه أن يكون مصلحاً اجتماعياً أو محللاً سياسياً أو موجهاً قانونياً أو غير ذلك من المهام العامة -التي يحتاجها المجتمع، إلا إن شاء هو ذلك- ولعل الأفضل للكاتب وللفن (فن السرد) وللقراء ألا يشاء المبدع ذلك، وألا يشغل نفسه به وهو يكتب نصه الإبداعي. وأضاف: كتابة رواية يحكيها الناس في المقاهي، فعلها الأقدمون حين كتبوا سيرة عنترة بن شداد والسيرة الهلالية وملحمة ألف ليلة وليلة، واستعانوا إذ فعلوا ذلك بالراوية أكثر من الراوي والرواية، وبالمغزى الأخلاقي قبل الجمال الفني، وبقدرة النص على التشويق والتحفيز أكثر من قدرته على بعث التأمل والتفكير والرغبة في التغيير. ولفت اليحيائي إلى أن هذه المهمة قديمة تمناها الأقدمون وحققوها قبل أن يتمناها خيري شلبي بزمن طويل، وعسى أن يجود الزمان له بقراء يتابعونه في المقهى أو الصالون! وأكد أن المبدع هو الناقد الأول لعمله حين يكتبه ثم ينقحه حيناً بعد حين بالإضافة والحذف والتنقيح واختيار الكلمات وترتيب الجمل، وأن القارئ ناقد حين تعجبه الرواية لأسباب أولا تعجبه لأسباب أخرى، لكن لعل خيري قصد الناقد بمعنى المثقف المتفرغ لنقد الرواية وتمحيصها وتوضيحها للقراء وبيان ما يعتقد هو كقارئ متابع للأعمال الروائية أنه الأجدى والأفضل في الموضوع والأسلوب والغاية والوسيلة، ورواية لا يتحدث عنها ناقد بهذه الطريقة (قد) لا تجد رواجاً بين القراء كما يتمنى المبدعون وإن زعموا أنهم لا يهتمون برأي النقاد والقراء على السواء. وخلص اليحيائي إلى أن وظيفة الكاتب أن يقدم لقرائه فناً خالصاً ملتزماً بالقواعد (العامة) للفن الذي يقدمه، وهذا الالتزام هو ما يجعل الفن جميلاً وموحياً ومحفزاً؛ سواء أكان على شكل رواية، أو قصة قصيرة، ومصطلح الجمال بعد ذلك مصطلح فضفاض وواسع بين فهم الفلاسفة، وإحساس الأدباء، ونظرات النقاد المتخصصين، وتذوق القراء المتابعين، ورضا هؤلاء جميعاً على كتابة المبدع غاية لا تدرك، ولعله غاية لا ينبغي لها أن تطلب، وحسب الكاتب المبدع من وظيفته أن يرضي ذاته وفنه وضميره ما وسعه ذلك بين حدّي الموهبة والمعرفة.