•• في عشية أصابتني بالدوار، انكففت عن مجلس فكري كنت أظنه فكرياً فغادرته.. هذا المجلس لصديق صفِيّ تتصبب من عروقه فَرَه الدماثة.. وما دعاني لتلك الخطوة؛ نوادر حاضرة من قليلي الدراية والإدراك، ضيئلي البصر والبصيرة.. عناصر بشرية تستميت للتفيقه في الكلام بتوسُّع وتنطُّع.. سقم هؤلاء في أصله ما بهم من هيام لشهوة الكلام، مثل ربات الحِجال لا شأن لهن بفِعَال الرجال. •• وفي هذا العالم المدور، تنبت سرديات متعاقبة من رقعة صغيرة لمدعي معرفة.. تصيغ حكايات تبذل سريعاً لتدفن.. تخيلات تنمو من رفاتها حكايات أخرى يرتجي منها منصب «العارف بكل شيء».. لحظات كلما تكلَّم صاحبها وسكت يبدأ اشتياقه لإطلاق لسانه مرة أخرى، وكأنه الأكثر أهمية من جميع الناس.. رحلات من الذكريات المتدفقة الفاسدة «البايخة» لمتعالم يرى نفسه فيها أنه يمتلك «صندوق الدنيا». •• هؤلاء المتشدقون المتكلمون تفاصحاً وتعاظماً لكلامهم تشكَّل فكرهم المريض على صورة غير مكتملة للحياة.. وهؤلاء بمشاعرهم العطشى بالقيل والقال تتكئ نظرتهم للحياة على نقطة غواية تلامس شروق جهلهم وغروب معرفتهم.. وهؤلاء المتفيهقون الذين يملؤون أفواههم بالكلام يظنون أن ثرثرتهم هي أحد أنواع حفظ بقائهم، بُغية وضع أقدامهم في دائرة أهل المعرفة.. إنهم المتوسعون في الكلام الذين يريدون الارتفاع، ولن يرتفعوا. •• كم هي الحياة مبهرة بعلمائها ومفكريها.. نحارير حذِقة متوهجة الأفكار شابت رؤوسها من العلم.. كتبت بسواعدها عن الحياة كفعل عبقري.. صنعت من المعرفة نعمة تمنح ارتواء عجيباً يسري على كل البشر.. وضعوا السوسن اللامع بكل روائحه وألوانه في حياة الناس فلم تتجعد أمامهم الدنيا.. أولئك المهرة جعلوا من الحياة جنة لمن لا يعرف جنة المعرفة.. جنة تطير بالبشر فوق السحاب.