الحرب متلازمة طبيعية فيها الكثير من خصائص الإنسان السلوكية والكثير من طبيعة الحياة النشطة والمتوازنة لكوكب الأرض. الحرب، نتيجة ما يتولد عنها من عنف مميت، هي ليست غاية إنسانية، بقدر ما هي ضرورة لإحْداث توازن داخل الطبيعة الإنسانية، من مظاهر إعمار الكون.. وتدافع الناس، والصراع الأبدي بين الخير والشر. لا يمكن تخيل حياة إنسانية خالية من الصراعات، نتيجة للتعددية الخلافية للمجتمعات الإنسانية.. كما لا يمكن تصور أوضاع ساكنة لكوكب الأرض، دون براكين وزلازل وتسونامي وانجرافات أرضية وحرائق غابات. كل تلك السلوكيات للإنسان وخصائص كوكب الأرض، إنما هي علامات طبيعية للحياة، وليس بالضرورة، سلوكيات عنيفة، في جملتها مدمرة.. أو بالضرورة مهلكة. الحروب تنشب لتفريغ طاقة إنسانية مكتنزة مفعمة بالحيوية المتقدة تحت رماد الخلافات الإنسانية.. والتحيزات الثقافية.. والتزمت الديني.. والتطرف العرقي، بسبب متغيرات اقتصادية وإرث ثقافي يتجذر عميقاً في سلوكيات البشر وطموحاتهم وأحياناً أهوائهم، من أجل الوصول ليس بالضرورة إلى السلام، بقدر ما هو استعادة التوازن، حتى تستمر الحياة، بل وتزدهر. صعب، في كل الأحوال: ضمان الاحتفاظ بالتوازن بين مجتمعات البشر، بل وحتى ضمن الأسرة الإنسانية الواحدة. متى اختل التوازن بين مكونات المجتمعات الإنسانية، تنشط من جديد مقومات التوازن في داخل الطبيعة الإنسانية، ليس بالضرورة بحثاً عن السلام، بقدر ما هو دافع، لاستعادة التوازن. لكن الحروب مهما حدث من تطورات تمس استراتيجيات وتكتيكات شنها وخوضها، إلا أنها في النهاية تستقر عند نقطة توازن بين النصر والهزيمة. في الأمد الطويل، ليس هناك نصرٌ مكتمل أو هزيمة ساحقة ماحقة. لم يحدث في تاريخ الحروب ما يشير إلى أن المنتصر يبقى كذلك للأبد، ولا المهزوم يُمحى محواً كاملاً من الوجود. لكن الحروب، في كل الأحوال، تعكس ضرورة، مهما كانت عنيفة، للتغير.. وحتمية الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى. ليس هناك حروب (حاسمة)، يتمتع فيها «المنتصر» ب «نصرٍ» مؤزرٍ ممتد.. ولا مهزوم يخرج من الحروب منهزماً، دون أن تلوح له الفرصة مستقبلاً، لإعادة الكَرّة ومحو عار الهزيمة وتبعاتها. اليابان ضُربت بقنبلتين نوويتين، وبعد نصف قرن، عادت لتصبح عملاقاً اقتصادياً يحظى بحضور دولي طاغٍ، دون أن ينسى مرارة الهزيمة الماحقة في الحرب الكونية الثانية. ألمانيا كلفتها الحرب هزيمة منكرة أفقدتها السيادة على أرضها وتقسيمها بين الدول المنتصرة، إلا أنها عادت موحدة قوية فاعلة في مؤسسات النظام الدولي وقيمه، وكأن وثيقة استسلامها للحلفاء، قد أكلتها «الأرضة». كما أنه ليس هناك تاريخياً حروب حاسمة ينتج عنها منتصرون أبديون أو مهزومون منقرضون. الحروب، الكبيرة في التاريخ، دوماً ما تلد حروباً أخرى، تُجرب فيها استراتيجيات وتكتيكات وأسلحة حديثة بتكنولوجيات متقدمة، ليس بالضرورة من أجل السلام، بل للبحث عن التوازن واستعادته. من كان يتصور أن الصين، طوال القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حولتها الحروب والصراعات إلى أمة شارفت على الانقراض، تنهض من جديد لتصبح عملاقاً اقتصادياً.. و«تنيناً» عسكرياً مهاباً، وقطباً دولياً يتطلع لمكانة دولية غير تقليدية. الحروب الكبرى التي يقال عنها حاسمة، لم تمنع عملاقاً كونياً مثل الصين ليظهر على الساحة الكونية يطلب النزال، لتحديد المنتصر في الصراع على مكانة الهيمنة الكونية. إسرائيل، طوال سبعة عقود، رسّخت لمكانة إقليمية متميّزة تتمتع بحضور طاغٍ على مسرحَي السياسة الإقليمية والدولية، متسلحة بإمكانات ردع جبارة، نراها تنهار في الأحداث الأخيرة ولم تصمد ولم ترتدع بإمكانات الردع التقليدية وغير التقليدية، لتكشف «عورتها» الأمنية، كما لم تحدث منذ إنشائها. إسرائيل التي كانت تنهي حروبها مع دول عربية مجاورة، في أيام، بل أحياناً في ساعات، لم تصمد أمام قوى غير نظامية، لتخوض حرباً معها تشارف على العام، دون أن تحصل من ورائها لا حقاً ولا باطلاً. حربُ روسياوأوكرانيا، دليلٌ آخر على أن الحروب أداة للتوازن، وليس بالضرورة بحثاً عن السلام. روسيا ثاني أقوى دول العالم تمتلك من أدوات وأسلحة الحرب التقليدية وغير التقليدية، لم تستطع أن تحسم خلافاتها مع جارتها أوكرانيا بالقوة في حربٍ شارفت على عامها الثالث، بل إن هذه الحرب، دخلت إلى أراضيها، لم تنجح بما لديها من إمكانات ردع تقليدية وغير تقليدية من حسم تلك الحرب لصالح موسكو. الحروب، في النهاية: تظل آلية فعالة وحتمية تاريخية، لا يمكن الاستغناء عنها لإحداث التوازن في النظام الدولي. أو الإتيان بنظامٍ دولي جديد، يحمل مسؤولية استقرار النظام الدولي وتوازنه، في حقبة تاريخية جديدة، من تاريخ الإنسان ودوره تحقيق التوازن الإنساني والطبيعي لكوكب الأرض. عندما يحدث التوازن يحل السلام.