ترسل عتبة النص الأولى (عنوان الرواية) ابنة ليليت للروائي السعودي أحمد السماري في روايته الثالثة والتي صدرت حديثاً من دار رامينا في لندن، كرسالة مباشرة وقوية أننا على وشك الولوج إلى امرأة تمردت على منطقة أمانها التي يحرص معظمنا على عدم كسرها، وتمردت على العرف والتقاليد وقانون الأسرة غير المكتوب وتمردت على الظلم الذي وقع عليها، وأعتقد أن الإسقاط الرمزي لليليت كان موفقاً وليس المقصود بذلك أسطورة زوجة آدم الأولى وتمردها عليه وتحولها في الأساطير اليهودية إلى زوجة الشيطان وعدائها لآدم ونسله، ولكنه عنى بذلك الترميز الحداثي لليليت كامرأة لا يمكن السيطرة عليها فتحولت من صورتها الشريرة السابقة إلى امرأة قوية حتى أضحت رمزاً أسطورياً للحركة النسائية العالمية محملة بمضامين الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، بل وفي بعض الحالات المتطرفة بتفضيل المرأة على الرجل. لم تكن جواهر أو جورجيت دافور أو دكتورة جي جي كما تدعى لدى المقربين منها تضع ليليت كقدوة لها ولكنها تمثلت في ثورتها على الظلم الذي وقع عليها فرسمت طريقاً يجسد المسار الأمثل لمضامين الحراك النسوي، فتمردت على أسرتها واتبعت طموحها الأكاديمي فحملها بعيدا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لتتحول جواهر الطبيبة قليلة التجربة نصف عربية ونصف هندية إلى دكتورة جورجيت استشارية جراحة القلب المشهورة. أتى السياق الزمكاني ممتداً لما يقارب الثلاثين عاماً ليحكي قصة الأم جورجيت والبنت ميلا كاستلو في قفزات زمنية واسعة لينتقل خيط السرد ما بين الأم والبنت ليضع البازل في اتزان وروية مكملاً لوحة احتشدت بالتفاصيل الدقيقة والإشارات الخفية، مبيناً بشكل واضح صراع الهوية والانتماء دون الحديث عنه بطريقة مباشرة. كما غطى المكان مدن الخبر والرياض ونيويورك ولوس أنجليس والبحرين وموريتانيا متنقلاً بسلاسة ليملأ فراغ المكان بالحياة والدموع والألم والأمل والرجاء. جاء استخدام الأصوات حداثياً، حيث لجأ الكاتب لاستخدام تقنية تعدد الأصوات ما بين الأم والبنت ليوضح الفارق بين جيلين وعالمين وهويتين والاختلاف القائم بينهما، كما تم استخدام تقنية جديدة تجمع ما بين الراوي الأنا والراوي المشارك في ذات الوقت حينما تحكي ميلا عن أمها نقلاً عن طرف آخر، ورغم صعوبة الإمساك بتلك التقنية إلا أن الكاتب لم يفلت تلك الأصوات وإن كان في بعض الأحيان يتلصص الراوي العليم أيضاً ويدلي بدلوه في ومضات سريعة. قامت الرواية على تيمة الهوية والانتماء ورغم توافقهما في الظاهر إلا أنه كان هناك تعارض واضح بينهما في سياق الرواية، فهوية جواهر النهائية شكلتها عدة عوامل تداخلت فيما بينها لتنتج شخصية ذات هوية متعددة نصف عربية ونصف هندية، بتنشئة متحفظة وعادات وتقاليد مقيدة، إلى عوامل مكتسبة من واقع العيش في مجتمع مختلف عما اعتادت، وتقاليده أقل قيوداً، فسلمها صراع الهوية إلى القبول بزواج يخالف دينها، ولكن لا يخالف القانون الأمريكي ولا يخالف مبادئها الأخلاقية المكتسبة، ولو كان هناك صراع هوية فقد انتهى لتكوين شخصية غاية في التعقيد تطفو وتغرق خصالاً مميزة منها حسب تداعيات الأحداث أفضت بجواهر أو جورجيت إلى المرض النفسي، وخلل في علاقاتها الأسرية القديمة من أسرة أبيها التي كان مبررها هو الظلم، ولكن ذات الصراع أفضى بها لخلل في علاقتها بأمها وبنتها، ولكن الانتماء ظل قوياً لذات الدائرة من الأقرباء، رغم الكبرياء والغضب فعادت تحن لأمها وتهفو لابنتها بعد ما يفوق ربع قرن من الزمان. ولابد هنا من الإشارة إلى أن الهوية في تشكلها متغيرة ما لم تضرب جذورها عميقاً في الأرض ووافقت تقاليدها ومعتقداتها ما يقر في النفس (المرأة العجوز في موريتانيا)، وقد تكون مضطربة متأرجحة في الانتماء إلى عالمين متناقضين في وضع يبدو أقرب لصراع الحضارات (جواهر وجورجيت)، وقد يحسم تماماً بتشكيل هوية جديدة تقتلع جذور انتمائها من حضارة إلى حضارة أخرى كما حصل مع (البروفيسور عبدالله طالب) الذي انتقل في الاتجاه المعاكس من أوج الحضارة المادية المتقدمة بحثاً عن ملء خوائه الروحي بين رمال الصحراء وحليب النوق وصلاة الصبح في مسجد يمتد بمساحة الصحراء وتسقفه سماء زرقاء رصعت بالنجوم.