لا يمكننا النظر إلى «اللغة» باعتبارها مجرد ناقل رئيس للتواصل والأفكار والمشاعر بين الأفراد والجماعات في المجتمعات، بمعزل عن قيمتها الثقافية والأخلاقية والإنسانية، وارتقائها لتكون بمثابة الوعاء الحضاري وجوهرة القوى الناعمة التي تعبّر عن تأثير وتقدّم الأمم وإرث مخزونها المتراكم. نقول ذلك في ظل ما نشهده اليوم في واقعنا المحلي والعربي وصولاً إلى الواقع العالمي ككل، من تمدد لمفهوم «التلوث» من نطاقه المرتبط كلاسيكياً بالبعد المادي من نفايات وبيئة ومناخ، مروراً بظاهرة التلوث السمعي الناجم عن الجنوح غير المفهوم للضوضاء والأصوات العالية التي تهدد وداعة أحيائنا وشوارعنا وسكينة أجوائنا، وصولاً إلى التلوث البصري وليد عبثية الذوق والألوان وتغريب للهويات الأصيلة في كل ما يحيط بنا من عمران ومبانٍ وواجهات وحتى أزياء، ليضاف إلى ذلك كلّه بُعداً جديداً قد يكون الأكثر خطورة عنوانه «التلوث اللفظي». والتوصيف بأنه الأكثر خطورة إسقاط مكتمل الأركان وخالٍ من أي مبالغة لآفة آخذة بالتضخّم والتسرّب إلى كافة تفاصيل حياتنا ومفرداتنا اليومية، وعن سابق إصرار وترصّد ولن أبالغ إن قلت و«بتواطؤ» جماعي إنْ بالمشاركة في «إثراء» هذا التلوث أو بالصمت إزاء ما يواجه لغة خطابتنا اليوم من تدهور وتشويه وانحراف عن مفاهيمها الأصيلة. ومصدر التخوّف الحقيقي من هذا التلوّث يكمن بتسلل ألفاظه وتعابيره الرديئة إلى الخطاب الإعلامي والجماهيري واقترابها من مجرد بضعة مفردات تُلقى هنا أو هناك لتصبح «لغة» مكتملة القوام بقوالبها تتحول إلى سياق مُمارس في مهاراتنا الاتصالية وعلى مختلف الأصعدة والنوافذ والمنصّات والمستويات، وأن تنجح بمرور الوقت وتحت وطأة «الاعتياد»، في تذويب الصبغة البديعة لتراثنا اللغوي الغني الذي طالما منحنا زخماً اتصالياً مؤثراً وجاذباً ومتفرّداً. يقول سقراط «إن التواصل مهارة يعلمها الجميع، ولكن فن التواصل هو الذي يحتاج للتطوير». ولكن ما يجري اليوم من محاولات للعبث بمحرّكات اللغة وتمييع تماسكها من خلال تعمّد الاستعانة بتعابير ضحلة بل وسوقية في بعض الأحيان، هو عكس ذلك على الإطلاق. فرغم التطوّر المدهش لقنوات التواصل ووسائطه، إلا أن «لغة» التواصل تواجه تراجعاً مقلقاً لا سيما في ظل تزايد المنابر، وتكاثر عدد المؤثرين وقادة «الإرسال» بفضل الفسحة التي تمنحها لهم منصّات التواصل ليبثّوا من خلالها ما طاب لهم دون قيود أو معايير لضبط الإيقاع فكراً ولغة، لدرجة أن الكثير مما كان في الأمس غير مباح بات اليوم مُتاحاً، وما كان يُقال خلف الأبواب أصبح يُتغنى به في العلن دون أدنى اعتبارٍ لمنظومة أخلاق وقيم مجتمعية ظلّت بمثابة الأرضية الصلبة التي تقي الشعوب من السقوط في وحل التخلّف والإسفاف. وللأسف فإن بعض وسائل الإعلام المنوط بها مهمة الارتقاء بالذائقة اللغوية للجمهور تخلّت هي نفسها عن هذا الدور لتقف على الجبهة المقابلة لتمسك بيدها معول هدم يتيح للتلوث اللفظي بالتمدد أكثر، وليعيق بدوره انسيابية التفاهم المنشود بين الأفراد والمجتمعات وجودة التواصل والتفاهمات بينهم، ويخدش نقاوة القوالب اللغوية التي تحفظ احترام وتقدير وثقة الأفراد ببعضهم، وتزعزع قيم الإنسانية والإيجابية ورونق الهوية.