الأسلوبية منهج من مناهج النقد الحديث، ويعد من مناهج الحداثة. وهو متفرع من شجرة اللسانيات. وهنا لا بد من التفريق بين الأسلوب والأسلوبية، فالحديث عن الأسلوب سابق، وهو طريقة التعبير أو الإنشاء أو الكتابة، وطريقة اختيار الألفاظ وتأليفها والتعبير بها عن المعاني قصداً للإيضاح والتأثير، وهو العنصر اللفظي في النص، يقابله العناصر المعنوية: الأفكار والخيال والعاطفة. وتعريفه يختلف باختلاف المنطلقات، فهناك تعريف بالنظر إلى المخاطِب والمخاطب والخطاب، وهذا التعدد أثر في تعدد الأسلوبيات أيضاً. وفي تراثنا حديث عن الأسلوب، إذ أشار عبد القاهر الجرجاني إلى أنه الضرب من النظم والطريقة فيه. وحازم القرطاجني أشار إلى أنه التناسب في التأليف. وابن خلدون يرى أنه المنوال الذي ينُسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه. أما الأسلوبية (علم الأسلوب) فلها مفاهيم عدة، لكن بداية يمكن القول: إن الأسلوبية هي: علم لغوي حديث يبحث في الوسائل اللغوية التي تكسب الخطاب العادي أو الأدبي خصائصه التعبيرية والشعرية، فتميزه عن غيره. إنها تبحث عن الظواهر الأسلوبية بالمنهجية الأسلوبية. وتعد الأسلوب ظاهرة لغوية تُدرس في النصوص وسياقاتها. وعرفها جاكبسون بأنها البحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً، فيرى أنها فن من فنون شجرة اللسانيات. والأسلوبية تدرس كل ما يتصل بمظاهر (الانحراف الجمالي، الانزياح، العدول) في النص الأدبي، ويمكن غير الأدبي. وتهتم بكل ما يتصل باللغة من أصوات وكلمات وصيغ وتراكيب ونحو وصرف ودلالة. ويمكن القول: الكلام العادي محمد كريم، والعدول محمد بحر. وتخرج -أيضاً - على نظام اللغة من حيث الترتيب. ومفهوم العدول أو الانحراف أو الانزياح يتمثَّل في الخروج عن المألوف في اللغة، أي مخالفة النسق الثابت للغة. ويمكن القول: هو الانحراف عن النموذج الثابت. والأهم الوظيفة التي يؤديها الانحراف. ومثال النموذج الثابت خروج أبي نواس عن ديباجة القصيدة العربية. ومفهوم الاختيار يتمثل في أن الأسلوبية قوامها مبدأ الاختيار والتعليل له، فالسؤال لماذا عمد المخاطب /المرسل إلى اختيار لفظ معين أو تركيب معين خالف فيه النسق الثابت. والأسلوبية تعد حلقة وصل بين علم اللغة والدراسات النقدية فتنطلق إلى النص الأدبي مستعينة بالدراسات اللغوية المعنية ببنية اللغة. وانبثقت من الفكر اللغوي والأدبي قبل الحركة البنيوية متأثرة بالاتجاهات ذاتها التي أسهمت في تشكيل البنيوية، مثل الشكلانية الروسية، وحركة النقد الجديد. وهي وثيقة الصلة بالبنيوية وغيرها من المناهج النقدية التي تعتمد اللغة ونظامها مرجعاً لها. ومن أوجه التشابه بينهما: التركيز على النص، والاهتمام بالعناصر المهيمنة عليه عند بعض الرواد، والاهتمام بالعناصر الفردية للنص عند آخرين. وتبرز العلاقة بينهما في الاهتمام بالبنى الرئيسة التي تشكل النص. وترتبط بمجموعة من العلوم والفنون، مثل: علم النحو والصرف والبلاغة والعروض والمنهج النفسي. فالبلاغة مثلاً ترشد إلى الطريقة المثلى في التعبير، مستعينة بالذوق السليم. والنحو والصرف يرشدان إلى بناء المفردات ووظائفها والتراكيب، وعلم النفس يسهم في تفسير اختيارات الشاعر لمفردات معينة، أو تراكيب بعينها. ومن المقولات التي تحتاج إلى مراجعة: الأسلوبية الوريث الشرعي للبلاغة، فمثل هذا القول يحمل فكراً إقصائياً، لو طبقناه على البلاغة العربية، التي تعد جزءاً من البلاغة القديمة. والأسلوبية مرت بمراحل، ففي بداياتها اتجهت إلى التقاط بعض السمات للنسيج اللغوي للنص دون تعمق، لكنها اتصلت بعد ذلك بالنص واختلطت به، عن طريق قراءة النص للكشف عن قيمه الجمالية. وللأسلوبية اتجاهات عدة، منها: 1- الأسلوبية التعبيرية: ورائدها شارل بالي، وتهتم بأثر الجانب الوجداني في تشكيل السمات الأسلوبية اللغة، وعمل الناقد تبيين مدى الارتباط بين التعبير اللغوي والشعور النفسي. وبالي يهتم بدراسة وقائع التعبير اللغوية بصفة عامة، لا عند مؤلف خاص، فمهمة علم الأسلوب الرئيسة عنده تتمثل في البحث عن الأنماط التعبيرية التي تترجم في فترة معينة حركات فكر المتحدثين وشعورهم باللغة، ودراسة التأثيرات العفوية الناجمة عن هذه الأنماط لدى المتلقين. ومن هنا يمكن القول إن أسلوبية بالي تهتم بدراسة لغة الاستعمال أكثر من الأدب، فجهوده انصبت على دراسة أسلوبية اللغة الفرنسية، فهي أسلوبية لسانية. 2- الأسلوبية الأدبية: ورائده سبيتزر، ويطلق عليها التكوينية. وأسلوبية الفرد؛ لأنها ترصد علاقات التعبير بالمؤلف. وتهتم بتفسير السمات الأسلوبية في العمل الأدبي. وتهتم بالنص. وتنطلق من معرفة الاستعمال الفعلي للغة. 3- أسلوبية المتلقي: ورائدها ريفاتير، وتركز على العلاقة بين النص والمتلقي، أكثر من علاقة المبدع بالمتلقي. وتسعى إلى البحث عن القارئ النموذجي، واكتشاف مغزى النص، وتتبع المزايا المؤثرة في القارئ. وهدف تحليل الأسلوب عند ريفاتير يتمثل في « الإيهام الذي يخلقه النص في ذهن القارئ». وهنا ربط بين الأسلوبية ونظرية التلقي. 4- الأسلوبية الإحصائية: تعتمد على الأرقام والإحصاءات، وتجمع المعلومات اللغوية وتصنفها وتنظمها، وتدرس معدلات التكرار، تدرس الأسلوب رأسيا وأفقياً. ولا يمكن الاعتماد عليها كلياً أو الاقتصار عليها، ومن المهتمين بهذا الاتجاه الدكتور سعد مصلوح. 5- والأسلوبية البنيوية التي تهتم بالبنى الرئيسة المكونة للنص، ومن أوجه التشابه بين البنيوية والأسلوبية الاهتمام بالعناصر المهيمنة على النص، وأحياناً بالعناصر الفردية. وبعد هذا التقديم الموجز عن الأسلوبية يمكن القول إن الأسلوبية، خاصة الأدبية، منهج نقدي مهم جداً، يراعي خصوصية الأدب؛ لأنه في الأصل يبحث عن الأدبية في النص، وينطلق منها، إذ يهتم بإبراز العناصر التي منحت النص أدبيته. وهو منهج لاقى رواجاً وما زال في الدراسات النقدية. إجراءات الأسلوبية أهمية التحليل الأسلوبي تبدو في الكشف عن المدلولات الجمالية في النص، وذلك عن طريق النفاذ إلى مضمونه وتقسيم عناصره. والتحليل بهذا يمهد الطريق للناقد ويمده بمعايير موضوعية تمكنه من ممارسة عمله النقدي وترشيد أحكامه، ومن ثم قيامها على أسس منضبطة. ويستند الباحث الأسلوبي إلى: التحليل الصوتي للنص، والصرفي، والنحوي (التركيبي)، والمعجمي، والدلالي (التصويري). فيقوم بفحص العناصر النحوية/ التركيبية للعبارات المختارة ويفسرها بوصفها إشارات لمقاصد المؤلف، وبمعنى أدق للمغزى الأعمق لما يكتبه. خطوات التحليل الأسلوبي 1- الاقتناع بأن النص جدير بالدراسة، وهذه العلاقة تبدأ باستحسان الناقد للنص، وتنتهي حين الشروع في التحليل والدراسة، حتى نتجنب الأحكام المسبقة. 2- ملاحظة التجاوزات النصية وتسجيلها بهدف الوقوف على مدى شيوع الظاهرة الأسلوبية أو ندرتها، ويكون ذلك بتجزيء النص إلى عناصر، ثم تفكيك هذه العناصر إلى جزئيات صغيرة، وتحليلها لغوياً. فالتحليل الأسلوبي يقوم على مراقبة الانحرافات: كتكرار لفظ، أو قلب نظام الكلمات، وغير ذلك. 3- هي نتيجة لسابقتها، وتتمثل في الوصول إلى تحديد السمات التي يتسم بها أسلوب الكاتب من خلال النص المدروس، ويتم ذلك بتجميع الخصائص الجزئية التي نتجت عن التحليل السابق، واستخلاص النتائج العامة منها. وهذه العملية تشبه التجميع بعد التفكيك، والوصول إلى الكليات، انطلاقاً من الجزئيات. ويمكن القول هنا: إن عملية التحليل تبنى على تفكيك النص إلى وحدات صغيرة، قد تصل إلى اللفظ أو الحرف الواحد، ودراستها منفصلة عن العمل، ثم تجميعها وبحثها في إطار الأثر الذي يحتويها. أنواع الدراسة الأسلوبية 1- دراسة شاملة للمستويات الأربعة: الصوتي، واللفظي، والتركيبي، والدلالي (التصويري). 2- الاقتصار على مستوى واحد من المستويات السابقة. 3- الاقتصار على ظاهرة واحدة من الظواهر داخل المستويات، كالتكرار مثلاً. 4- الانطلاق من فكرة رئيسة واحدة، كالفخر مثلاً. ولكل طريقة خصوصية بحسب المدونة، ونوع البحث. والسؤال هنا: لماذا يختار الباحث المنهج الأسلوبي طريقا لمقاربة النص؟ وهنا لا بد من التأكيد على أهمية معرفة وظيفة الأسلوبية. وسأذكر هنا نماذج صالحة للدرس الأسلوبي، منها: لماذا استعان أبو القاسم الشابي بأسلوب التشبيه في مطلع قصيدته (صلوات في هيكل الحب)، وذلك في قوله: عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد ولماذا حضر أسلوب الشرط في معلقة زهير بن أبي سلمى، كقوله: ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بميسم ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومه يستغن عن ويُذمم فحضور أسلوب الشرط في معلقة زهير ظاهرة أسلوبية تستدعي الوقوف. وبعد، فالأسلوبية منهج نقدي وثيق الصلة بطبيعة الأدب، وذلك من خلال عنايته بإبراز أدبية النص، وجوانب تفرد الأديب. ... ... ... ... - المراجع: 1- الأسلوبية (مدخل نظري ودراسة تطبيقية)، د. فتح الله أحمد سليمان. 2- الأسلوبية التعبيرية عند شارل بالي، د. محيي الدين محسب. 3- علم الأسلوب (مبادئه وإجراءاته)، د. صلاح فضل. 4- مدخل إلى علم الأسلوب، د. شكري عياد. 5- في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية، د. سعد مصلوح. ** ** أ.د. علي بن محمد الحمود - الأستاذ في كلية اللغة العربية-جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للتواصل مع (باحثون) [email protected]