اختلفت معايير تعرّض الجمهور للمحتوى الإعلامي والاتصالي في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ولم يعد هناك شغف كبير لسماع أخبار رسمية أو تقليدية، وإنما أصبح البحث مستمراً عن أخبار الغرابة والطرافة والفضائح والعواطف الإنسانية، والتعليق عليها، والتفاعل معها، وأكثر من ذلك تحولت تلك الأخبار إلى محتوى جانبي في منصات وتطبيقات أخرى، ومحتوى جديد يُصنع على غرارها لكسب المزيد من الشهرة والمتابعين. السؤال الآن.. ما هي التحولات المعرفية والنفسية والسلوكية التي قادت الجمهور إلى مثل هذا النوع من الأخبار؟ ولماذا كل هذا الاهتمام والتفاعل؟ وهل هذا حصر على مجتمع دون آخر؟ أم هناك عوامل مشتركة وسمات خاصة بين هذه الجماهير بغض النظر عن الجغرافيا؟ الجواب المنطقي أن سمات الجمهور في شبكات التواصل الاجتماعي في أي مكان من هذا الكوكب متقاربة جداً، سواءً من حيث تفاعله، أو صناعة وتلقي المحتوى في وقت واحد، إلى جانب أن اهتمامات هذا الجمهور وتفضيلاته أصبحت متنوعة ومتغيّرة بسرعة، كذلك ثقافته بصرية أكثر منها مكتوبة، وبناءً على ذلك تشكّلت سلوكيات التعرّض على أساس هذه السمات، إلى جانب متغيرات أخرى ديموغرافية (العمر، الجنس، الدخل،...)، وعوامل نفسية (الحالة المزاجية، الضغوطات، التوتر والقلق،...)، واقتصادية (الغنى، الفقر،..)، كذلك المحددات التي تؤطر شكل الممارسة الإعلامية والاتصالية في المجتمع (الأنظمة والتشريعات، الهامش المتاح لحرية الرأي والتعبير، قيم وثقافة المجتمع). وعلى هذا الأساس تنامت في داخل الكثير من هذا الجمهور ظاهرة الهروب من الواقع إلى واقع آخر مختلف؛ بحثاً عن إشباع احتياجات ورغبات خاصة، وبعيداً عن أي تفاصيل حياتية مملة وكئيبة ومزعجة، وسعياً إلى التكيّف والتعايش مع الذات من دون أن تخسر نفسها أو القريبين منها؛ نتيجة موقف أو ردة فعل مع شخص أو جهة، وهذا الهروب أيضاً صاحبه تبّلد إحساس غريب في مدى القدرة على ترتيب الأولويات بين المهم والأكثر أهمية، وتصنيف المحتوى بين الأكثر قيمة والأقل تفاهة وانحطاطاً، ومع مرور الوقت تحول هذا الهروب من الواقع إلى حالة استسلام له، والنتيجة أننا أصبحنا في سوق حرة كبيرة للأفكار والمنتجات التي لم يكن سهلاً فرزها على أساس معايير الوعي والمعرفة والسلوك المقنن، وإنما معايير أخرى في البحث عن الإثارة، والتأزيم، والتشكيك، والإحباط، والتنفيس على الآخرين بشعور منفصل عن القيم والمبادئ والأخلاق. الغريب ونحن في لحظة الاستسلام لهذا الواقع الجديد نُدرك تماماً حقيقته، ولكننا مضطرون أن نتعرّض له، وذلك رغبة في الفضول الذي يحفزنا لمعرفة ماذا يدور في هذا الكوكب الصغير من حولنا، أو الكبير الذي أصبح قريباً منّا ونحن جزء منه ونتأثر فيه، ومن هنا برزت ظاهرة المشاهير الذين استثمروا لحظة الهروب ثم الاستسلام للجمهور؛ لتعزيز محتوى الغرابة والطرافة والفضائح والعواطف الإنسانية؛ ليحصدوا العدد الأكبر من هذه الجماهير كمتابعين لهم؛ لأنهم باختصار يقدمون لهم ما يريدون من هذا المحتوى.